مبحر على عتبات الحرف

مراكب سكرية للحب "5" : حب وتذكرة سفر

بدأت أوظب حقيبتي بكل تأني... يحتدم على عيوني حزن حيرة وصراع...
متأزمُ نبضي.. متورط قدري في ثورة قراري الصعب..
كنت حينها موجعا إلى أفظع حد.. بينما جعلتني برودة أصابعي
أشعر بالجليد على كل شيء أحمله من خزانتي.. اتوسم في كل قطعة منه ذكرى
جميلة عشناها معا مرة بعسل حلو ومرة بمذاق مر .. لكننا لم نسأم من بعضنا
البعض طوال خمس سنين من الارتباط ...

أما هي فقد كانت تتكيء على عارضة الباب مربعة الأيادي .. تتنهد خلسة خشية

من أن أسمعها تئن .. لم تشأ أن تنطق ببنت شفة وواصلت مراقبتي بصمت ...
كادت حقيبتي أن تمتليء وحين هممت بإغلاقها ... أجهشت ببكاء مكتوم كبت في
صدرها الأنفاس التي سدتها بكلتا يديها كي لا يسمعها أحد ...
وقفت مطولا ولم أستدر كي لا أراها .. فتحت حقيبتي من جديد ... سحبت
أغراضا منها .. عوضتها بأخرى .. لم أكن أعي ماذا سحبت وماذا أعدت ... كنت
أحترق في جوفي مع كل انحناءة وقيام... كنت أريد أن أتكلم ... كنت أريدها
أن تصرخ أيضا.. أن تقول لي أو عني أي شيء ... كنت أسافر في خلدي إلى جحيم
الفراق الذي يذيبني وأعود .. كنت أشعر بلهيب جهنم ينخر وجعي ... لم أكن
أنطق بحرف .. لكنني كنت صمتا أصطخب.. ولم أشأ أن أتألم قبالتها فهي برغم
كل ضعفي أمام حزنها ليست بأشجع مني في كبرياء الحب ... هذا الذي نغامر به

كنت أعبث بملابسي التي رتبتها هي بحنو على رفوف الخزانة .. كانت تحب
ملابسي أيضا .. تعتني بها وكأنها قطع مقدسة .. كانت تصون قلبي بشوق من
خلالها.. فتطالع أغراضي المبعثرة في البيت تعيد ترتيبها كل يوم عشرات
المرات كي لا تنسى أنني ذهبت أو تأخرت أو غبت ...
كنت أقرأ حكايا انتظارها لي وخوفها على وأنا أعبث بتلك الملامس في حقيبتي
.. كنت أفعل ذلك على مهل ... أنتظرها أن تتكلم بل أرجوها في باطني ...
قولي شيئا أرجوك .. امنعيني .. اختطفي الحقيبة من يدي .. ارمي أغراضي على
الأرض ... ارميني أنا ... ادفعيني على سريري ... حطمي باب الخزانة على
وجهي ... اضربيني برقة يديك الناعمتين .. لا تسكتي أكثر أرجوك ... لا
ينسفني شيء أكثر من صمتك الذي يقتلني
...

بدات تبكي .. وأشاحت بوجهها عني حين حملت الحقيبة مارا قربها عند الباب..
لم ألمح إلا الجمرة متوقدة على شرايين عينها .. كانت محمرة عن آخرها ...
فجرت على بريقهما كل هدير الصمت .. انكسر خدها المبتل لوقفتي الخفيفة ..
وتوقف عن النبض قلبها الذي يلهث من كثرة ما اجترعه من كتم الأنفاس ...
تجاوزتها .. فعادت تتنفس بقوة ... تكاد تمتص ما تبقى في الغرفة ما
اجترعناه سوية .. بصعوبة من هواء .. ربما كانت تلك آخر ذرات الحب التي
نستنشقها معا... مررت ولم تكلمني بشيء .. ولم تمد ذراعها لتستوقفني كما
المعتاد .. شعرت بالانكسار مضاعفا هذه المرة .. هي لا تريدني أن أبقى إذن
...

تقدمت خطوتين .. لأخر مرغما على ركبتي .. كان طفلي الصغير واقفا بجمود
صاخب في وسط الصالون.. كان يرقبنا لوقت طويلا .. يرقبنا برعب .. شاهدني
وأنا أحضر الحقيبة ... شاهدني وأنا أحملها .. شاهدني وأنا اتجاهل دمعة
الحبيبة و الأم .. تراجع إلى الخلف قليلا حين تقدمت صوبه.. لم يعهد مشيتي
هذه بحقيبتي الثقيلة.. لم يحتمل رؤياي مقتربا منه لآخر مرة .. لم يكن
يفهم شيئا لكنه أحس بكل شيء ... يسألني بصمت آلاف الأسئلة.. يودعني
مفجوعا بعينيه .. يشعر بأنه سفر طويل .. طويل جدا ... لا يعرف أنه من غير
رجعة .. شعر بأنه الأخير .... لكنه لا يفكر في منعه .. لكنه يساعد عليه..
حملق بي وليد قليلا وكأنه يعاتبني بعنف ... التف فجأة خلف الطاولة
.. ومسرعا.. أهرع إلى غرفة النوم ... اختطف محفظتي التي نسيتها على السرير
.. وجاء يجري: بابا نسيت جواز السفر

دارت بيَ الأرض وفقدت توازني.. رميت من يدي محفظتي و ذراع الحقيبة
واحتضنته بكل ما أوتيت من قوة... وأخيرا بكى ... وبكيت .. وبقيت هي
ترقبنا من بعيد ...

بين ذراعيْ.. تضاعف خوف "وليد" ابن السنوات الثلاث .. لم ير أباه يبكي
بهكذا حرقة من قبل ... بدت عيونه حبلى بالدمع في باديء الأمر .. ولم يقدر
على البكاء حين مد يده ليسلمني المحفظة .. لم يكن راضيا بما سنفعل .. لم
يكن يعي الصغير شيئا "لماذا نرحل؟" .. لاحظ أنني نسيت شيئا ما قد يعيدني
إليه.. كان بوسعه ألا يفعل .. لكنه لم يكن يعرف "حيلة الحقد" الذي يجوز
أن نقابل به الاخرين حين يكافئونا بالرحيل ...

أحبك يا كبدي .. ضممته أكثر
حتى شعرت بصدره لما اهتز .. امتلأت أحداقه بالبريق واشرأبت شفتاه حين لم
تتمالك أمه نفسها من البكاء منسدلة على الجدار إلى أن أجلسها الوهن فوق
الأرض ..

حين سمعتها كذلك ... اقشعر بدني وارتعبت.. وضعت ابني على الأرض .. قبلت
رأسه وقلت له هامسا : ... وليد .. وليد بابا .. لا تبك .. ماما بخير ..
سأشرب كوبا من الماء وأعود ..
وقبل أن أقوم انحنيت إلى أذنه وقلت: اذهب إلى ماما .. قبلها وقل لها اسكتي .. رُح يا
وليد.. يالله رح

قبلني ابني وذهب يجري .. لم يبك وليد بعد كما بكيت أنا وهي .. لكن قلبه كان
منفطرا أكثر منا ... هرعت أمه وسبقته إليه .. حملته ووقفت ترقبني أسحب
قدميَ سحبا ناحية المطبخ ... كنت قد اختفيتُ حين لمحتْ تذكرة السفر بادية
من محفظتي في قلب جواز السفر العتيق.. هرعتْ إليها وسحبتها بعنف ثم
بخوف رمتها خلف الأريكة.. ابتعدت بوليد عن حقيبة السفر وضمته ...

.. كنت أحمل المنشفة في يدي حين عدت.. أمسح بها عرقا باردا كعرق الموتى على
وجهي .. لم أعد إلى وليد ..فقد كان في حضن أمه ... حملت الحقيبة وهممت
بالانصراف .. لكن وليدا صاح حين اقتربت من الباب: بابا ...

كان صوته رقيقا جدا .. لكنه أشبه بصوت الكبار حين يحزنون.. علت منه نبرة
الشجن ولم ينطق بعدها بشيء .. فقد أوصدت الباب خلفي بهدوء ورحلت..

توقفت عقارب الساعة عن الدوران.. وامتطى الصمت الغرفة من جديد ولا أحد
تكلم .. وقفا طويلا يرقبان طيف ذلك الرجل الذي بدا غريبا عنهما بعض
الشيء... حمل الحقيبة وغاب...

كانت تضم وليدها إليها .. ترقب في كل ثانية الساعة المطنبة في النوم قرب
سرير موحش وحشة الكهف المريب ... كان قد غفى في حضنها ولدي الحبيب وقد جف
على خديها كما على خديه بعض الدموع .. دموع أمه .. دموعي أنا...

وضعته على السرير وغطته برفق أكثر من ذي قبل ..تحسه اليوم أكثر وحدة من أي زمن مضى.. قامت
إلى النافذة .. تنتظر أحدا ما ..
من سيعود في هذا الوقت المتأخر من الليل؟ .. حملت سماعة الهاتف ثم
أعادتها ... راحت ثم أتت .. بدأت المخاوف تلتهم صبرها ... انحنت على وليد
وقبلته ... وليد ثمرة ذلك الحب الذي لا يقتله شيء ... حتى الغضب .. حتى
القسوة .. حتى الرحيل ... تفرك شعره بين يديها .. إنه يشبه أباه حين كان
صغيرا .. لكنني أؤكد أنه يشبه أمه أكثر .. فعيونه عيونها ... كانت تقول
لي: روحه روحك .. وليد أخذ منك طيبتك كلها ... وغضبك أيضا وحيرتك ...
أقول لها أن الشيء الذي متأكد منه أن وليد ورث كل شيء بشع مني وجميل من
أمه ... تنهدت عميقا هي تعرف أن ذلك الرجل الكبير حضوره في قلبها لا يريد
أن يكون أفضل من حبيبته بشيء حتى بجينات الأطفال ...

ابتسمت ودمعتها سبقت حركة الشفاه ...مدت يدها إلى سماعة الهاتف من جديد
..ثم أعادتها .. ثم حملتها ..ثم اعادتها ..بدأت تبكي لم تعد تدري ماذا
تفعل ..
هذه المرة جرت إلى الصالون . لم تتمالك خوفها عليه .. حملت تذكرة السفر
وشكلت رقم المطار .. أخبروها أن الطائرة أقلعت منذ ساعات ... ولم يكن على
متنها راكب بهذا الاسم ...

هرعت إلى النافذة مجددا .. تعصر الستائر بين يديها.. دق الجرس .. لم يكن معه
مفتاح الباب ..لذا جرت ... فتحت الباب وارتمت بحضنه: تأخرت كثيرا ..لماذا
تأخرت؟

تتوقف الدنيا عن الحراك ههنا.. بدأت تبكي ... فرك شعرها بين أصابعه وقبل
خصلة منها.. محاولا اسكاتها مازحها بلطف وقال: أنت مجنونة ...صح
قالت:أنتَ أكثر ...
ثم ابتسمت ورأسها لا يزال مغمورا في حضنه العميق

قال: أعلم والله... لكن هل سنبقى كمجنونين أمام الباب ... أين وليد؟

أدخلت الحقيبة وأوصدت الباب ثم قالت: هو نائم ..انتظر طويلا ثم نام ..
قال: أيقظيه ... سينام اليوم في حضني ..
أسرع الأب إليه وبدأ يوقظه برفق ودمعة الأسف ترقص على عينيه..
أما هي فوقفت ترمقهما بدمعة طليقة اغتالتها بسمة وليد لرؤية أبيه ..
التفت إليها وسأل: ألم تتعشوا بعد ... بطن ولدي يقرقر صح؟ ... أنا جوعان
قالت: ماذا تريد أن أحضر لك
قال: أي شيء المهم أن نأكل معا .. معا كل يوم ... كل يوم

أطال النظر إلى وجهها المشرق وقال: سامحيني .. أنا المخطيء دائما
قالت: لا .. أنت لا تخطيء أبدا .. أنا من أدفعك دائما لذلك ... أعتذر منك
قال ضاحكا: سنقضي الليلة نعتذر من بعضنا البعض إذن .. أين العشاء؟ وليد
جوعان أيضا.. صح وليد؟
.
.
.

سليم مكي سليم

مجرد حلم

3 comments:

  1. عابر سبيل10/4/09 13:30

    .
    .

    نشيج مكتوم - ناطق خلوصي

    الأخ سليم مكي سليم: قصتك جميلة جدا لم ارى ردا مناسبا يليق بها فأحببت أن أنقل هذه القصة لك , ولكم
    على أمل أن تنال اعجابك واعجابكم
    لا ادري لماذا هذه بالذات , لكن ربما لأنني أحسست بذات الغصة الحارقة في كلا القصتين



    تقبل تحياتي لك أخي الكاتب سليم مكي سليم





    نشيج مكتوم - ناطق خلوصي


    بدا كأن هاجسا ً غامضا ً استفزهُ وهتف
    بهِ أن إستيقظ , فاستيقظ. في تلك اللحظة لم تكن بواكير شمس الصباح قد أفصحت عن نفسها تماماً بعد. كان أول ما فعلهُ , أن مدّ أصابع يدٍ قلقة , وأزاح الغطاء عن نصف جسدها العلوي , فاطمئن إلى أنها ما تزالُ إلى جواره. تأمل وجهها ببصرٍ مرتعش , وخُيل إليه أنهُ يلمح ظلال أسىً خفي على وجهها الساكن , أو لعله رأى ظلال قلقهِ منعكسة عليه فأعاد الغطاء إلى سابق وضعه.

    لم تكن المرة الأولى التي يفعل فيها ذلك , ففي العزيع الأخير من الليل داهمهُ حلمٌ مرعب رأى نفسهُ فيهِ يسير معها يدا ً بيد في ( مستنقع الموت ) الذي يعج بالجيف البشرية. لكن ذلك المكان كان يبدو هادئا ً , أمنا ً: لا هدير قذائف مورتال أو زخات رصاص , لا دخان حرائق تشتعل أو شواظ لحمس بشري يحترق , ولا عويل سيارات إسعاف ؟ أدهشتهُ أن يرى حافلة صغيرة تأتي من مكانٍ لا مرئي وتطف إلى جوارِ رصيفٍ مهجور , قريبٍ منهما , وما يزال يشدُ قبضتهُ على معصمها كأنهُ يخشى أن تضيع منه . سكن هديرُ محرك الحافلة , فحرر يدها واندفع إلى الداخل من دون أن يزاحمهُ احد , آملاً في أن يحجز لها مكانا ً إلى جانبه , مدفوعا ً بالرغبة في أن يفر بها من ذلك المكان . حين التفت ليناديها لم يجدها . فترك مكانهُ ونزل على عجل كأن مسا ً من الذعر أصابهُ . صرخ مناديا ً بإسمها فردد الفراغ صدى صوته ُ المتهدج . بل إن الحافلة نفسها اختفت ولم يكن هناك من أحد ٍ حوله ُ . ووسط تشبثهِ المحموم بأي خيطِ أمل , تأتى لهُ , أو أوهم نفسهُ بذلك أن يمسك بطرف مثل هذا الخيط , فهب َ من نومهِ , وقلبهُ يضرب عظام َ صدرهِ بعنف ٍ . جلس ومدّ يدا ً متوترة وسحب الغطاء عن نصف جسدها العلوي . وتلك اللحظة , سكن وجيب قلبه .

    مكث ساكنا ً هنيهة و وما لبث أن نهض وخطى خطوتين. توقف عند النافذة , وبحركة أصابع خذرة سحب طرف الستارة قليلا ً , تسلل شريطٌ ضيق من ضوءٍ شاحب خجول . نثر شظايا بصرهُ , فتساقط على خضرة الأشجار الداكنة الساكنة . أعاد الستارة إلى ما كانت عليه وعاد إلى السرير ز لم يكن راغبا ً في معاودة النوم , ربما لأنه كان يُريد أن يقتنص لحظات سعادة ً قد لا تتكرر في هذه الأيام . تأمل وجهها الذي كان ما يزال مستسلما ً لجبروت النوم , فراه ُ هذه المرة هادئا ً , آسرا ً , وكأنه ُ يدعوهُ إليه , خُيل إليهِ أنه يرى ظلال إبتسامة ٍ صغيرة على طرفي شفتيها . أتراها تحلم الآن ؟

    ساورتهُ رغبة ً مباغتة في أن يوقظها . نعم , إن ثمة لحظات سعادة لا بُد من إقتناصها قبل أن تهرب . مد أصابع يده بحذر وصارت اناملهث تمسح وجهها وتمرث على شفيها برفق . فتحت عينين مغبشتين بالنعاس , نشرت على وجهها ابتسامة ٍ آسرة ً , همست بلسان ٍ عذب :
    ـ صباح ُ الخير !
    رد على تحيتها بانحناءة مترددة على وجهها حتى كادت شفتاه تلامسان شفتيها . قالت وقد أزاحت الغطاء عن جسدها :
    ـ ما الذي أيقظك َ مبكرا ً , وهذا اليوم يوم ُ عطلة ؟!
    رد معتذرا ً :
    ـ لا أدري . أنا أسف لأنني سرقتك ِ من لذيذ نومك ِ
    قالت هامسة ً :
    ـ لماذا تقول هذا ؟ ليس في الأمر ما يدعو إلى الاسف . كنت ُ ساستيقظ في كل الأحوال .
    تشبث بيدها .
    ـ لكأنك َ رأيت َ حُلما ً .
    زفر بعمق :
    ـ بل تستطيعين أن تقولي أنه كان كابوسا ً !
    ارتجفت شفتاها وغامت عيناها قليلا ً :
    ـ وماذا رأيتَ ؟!
    لم يكن قلبه ُ يطاوعه ُ لأن يروي لها الحلم , ربما بفعل خشيتهِ من أن يتحول إلى حقيقة . لكنها كانت ترنو إليه ببصر ٍ مترقب . بدأ يروي لها , فشعرت بغصة حزن . قالت , وكأنها أحست بالقلق الذي ينهشه ُ في الداخل :
    ـ اطمئن . هذا يعني أننا سنبقى معا ً غلى ما شاء الله . إن بعض الأحلام تنبئ بخلاف ما يراه ُ المرء

    ازداد وجههث اقترابا ً من وجهها ز قبّل عينيها أولا ً , وما لبثت شفتاهُ أن تحولتا إلى خديها لتنطبقا أخيراً على شفتيها . رأت ذلك الوميض الغامض يلتمع في عينيه , فوضعت ذراعها حول عنقه .
    حين وقع بصرها على الأخدود الضيق الصغير أسفل سرته , لامسته بأنامل رقيقة وهي تبتسم : شق هلالي ضيق خلفه ُ التئام جرح تداخل جراحي أجري له قبل سنوات كما سبق أن قال لها . أمسكت يده ُ ووضعتها على بطنها وقد انحسر قميصها الداخلي عنها :
    ـ احذر ! قد يرفس اللعين يدك !
    أحس برعشة ً تسري في جسده , تبدأ من بؤرة الإحساس فيه وتنتشر في كل خلية من خلاياه . وحرص على أن لا يضغط على بطنها مخافة أن تعاودها حالة الإجهاض . أغمضت عينيها , وخدر ٌ لذيذ يتغلل في جسدها . وما لبثت أن صارت تلهث , وقد أخذت أوصالها تتراخى واستسلمت لسكون ٍ لذيذ , والشمس بدأت تتوهج وراء ستارة النافذة .
    غاب في الحمام لبعض الوقت , ورأته بعد أن عاد يضع معطفه ُ على كتفيه . قالت بصوت ٍ ناعم :
    ـ إلى أين ؟
    ـ أذهل لأتي بالفطور .
    ـ ولماذا تتعب نفسك ؟ لدينا ما يمكننا أن نتناوله .
    رد ممازحا ً :
    ـ أريد أن آتي بما يعوض عن الطاقة التي خسرناها .
    قالت , وشيء من قلق خفي يساورها :
    ـ لا تذهب بعيدا أرجوك . ابحث عما تريد في الدكاكين القريبة
    لاحقه صوتها وهو يتجه صوب الباب :
    ـ هل أخذت هاتفك المحمول معك ؟
    استدار واومئ برأسه ِ ايجابا ً

    لماذا تأخر ؟ حقا , لماذا تأخر ؟ها إن نصف ساعة قد مر ّ , بل ساعة .. أيكون قد ركب صهوة عناده ُ وذهب للسوق البعيدة ؟ ربما .. لكنني لست ُ مطمئنة. لماذا لم يتصل بي ؟ لأتصل بهِ إذن . ضغطتُ على زر هاتفي المحمول . الهاتف أخرس . كررتُ الضغط على أزرار الهاتف لا رد ّ . تمنيتُ أن يكون قد نسي أن يفتح هاتفه ُ كما اعتاد أن يفعل كل ّ ليلة , وبدت لي أمنيتي محض قشة في تيار ٍ جارف . غادرت ُ الغرفة وصرتُ أتنقل من مكان ٍ إلى آخر , منتظرة ً أن يرن هاتفي وأسمع صوته . لكنّ صوته ُ ظل ّ غائبا ً في بئر المجهول . ما الذي يحدث يا إلهي ؟ لأخرج وأتقمص الأمر .

    خرجت ُ حاسرة الرأس . مع أن خروج إمرأة مثلي حاسرة َ الرأس يدخل في باب المغامرة غير المحسوبة النتائج في هذه الأيامز الشارع يكاد يكون خاليا ً . هذا يوم عطلة . أسأل من عنه؟ كثيرون يعرفونه ولكنني لا أجد أحدا ً منهم هذه الساعة . هل أطرق أبوابهم وأسألهم عنه ؟ سقط شعاع بصري الحائر على بصيص أمل , وجدتُه ُ في وجه الكهل الطيب وهو يقف في دكّانهُ . غير أن ذلك البصيص سرعان ما تلاشى : (( لم أرهُ يا ابنتي . )) لماذا تلاشى هذا البصيص ؟ لكنه ُ لم يتلاشى تماما ً , فها أننّي أراهُ من جديد متوهجا ً في عيني الفتى القادم نحوي: (( نعم رأيتهُ ! )) سبقني صوتُ قلقي : (( أين ومتى وكيف ؟ )) (( هناك ! )) وأشار بيده في اتجاه اليمين . (( ومتى كان ذلك ؟ )) (( قبل ساعة أو نحو ساعة . )) (( ولكنّ الحاج يقول أنهُ لم يره ! )) (( هذا صحيح فقد كان ما يزال في البيت وكنت ُ انا من يقف في الدكان أنذاك. )) (( وبعد ؟! )) (( لقد ألقى عليّ تحيته ُ مصحوبة بواحدة من ابتساماته الآسرة , ثم رأيته يبتعد , وما لبثت ُ أن رأيت ُ سيارة حديثة ذات نوافذ مظللة تقف إلى جواره ويهبط منها رجل بدا أنيقا ً , غير أنني لم أتبين ملامحَه ُ . رأيته ُ يمدّ له ُ يده ُ ويصافحه ُ ثم يفتح لهُ باب السيارة . ))

    لغز محير والله ! سيارة بنوافذ مظلله ورجل ٌ أنيق يصافحَه ُ ويفتح له ُ باب السيارة ؟ من هذا الرجل ؟ أيكون أحد قدامى معارفه , وقد صار مسؤولا ً كبيرا ً , صادف مروره من هنا تلك الساعة وأراد أن يلتقي به ويستذكرا أياما ً مضت ؟ لماذا لم يتصل بي إذن ؟ لا شيء يطفئ نار القلق المشتعلقة في أحشائي . أنا وحدي ولا أدري ما أفعل . لا اجد من يخفف عني وقع غيابه ُ المفاجئ . بضع سنوات ونحن ُ معا ً . لم نفترق يوما ً ولا غاب عني لسبب من الأسباب . لا مناص من أن أخبر أهله ُ , وأهله ُ في طرف قصي من المدينة .. ضاحية ملتهبة بنيران الاحراب المجنون . لا فائدة ترتجى من وجودي هنا ز لأعد إلى البيت إذن .

    عدت ُ على قدمين لا تقويان على حملي . تمنيت ث على الله أن لا يكون خط ُّ الهاتف الأرضي مقطوعا ً وكان الله ُ إلى جانبي : فما أن انتهيتُ من إدارة رقم هاتف أهله حتى تهدّج رنين الجرس في الطرف المقابل وجاءني صوت ُ أمه تسبقه لهفتُها . وحين بلغا صوتي تعالى عويلها : عويل مفجوع شعرت ُ كأنه يتسلل إلى قلبي فيلسعه بشواظ ٍ من نار . وما لبثت ُ أن سمعت ُ سماعة الهاتف تسقُط . التقطت أذني لغطا ً مرتبكا ً , ثم تناهى صوت ُ أبيه ملهوفا ً : (( من الذي يتكلم ؟ )) (( أنا يا عمي )) وإذ تعرّف على صوتي بدا لي أنه ُ تنبّأ بهول الفجيعة تهدّج صوته : (( ما الذي حدث يا ابنتي ظ )) (( ابنُك َ يا عمي .. خرج صباحا ً ليأتي بالفطورولم يعد حتى الآن ! )) خُيّل إلي ّ أنه يوشك أن ينفجر بالبكاء , لكنّه تمالك َ نفسه ُ , ربما إشفاقا ً علي ّ . ارتعشت نبرات ُ صوته : (( لا تيأسي من رحمة الله يا ابنتي )) (( ونِعم بالله يا عمي .. ولكنني لا أدري ما أفعل وأنا وحدي كما تعلم . )) زفر بعمق : (( وأنا أيضا لا أدري ما أفعل يا ابتي . أنا وحدي مع أمه الغائبة عن الوعي الآن . أمّا أخوه ُ فقد كُنا هرّبناه ُ إلى مكان ٍ آمن . أنت ِ لا تدرين بما يجري هُنا . الحي محاصر وقد قطعوا الماءَ والكهرباءَ عنا ونحن ُ محبوسون في بيوتنا . لا أحد منا يجرؤ أن يمدّ راسه ُ من فرجة الباب , فالقناصون بالمرصاد . استعيني بأحد ٍ من أهلك ِ , وليكن الله في عونكِ ))

    أهلي ؟ نعم أهلي . ولكن .. من منهم يقدر على مدّ يد العون لي في هذا الزمن الوغد ؟ أبي الذي استبدت بهِ الشيخوخة ظ أم إخوتي الذين تشتتوا في المنافي القريبة والبعيدة ؟ أم أخواتي اللاتي يلذن ببيوتهن تحت أجنحة أزواجهن؟ لا أحد غير أمي , أمي وحدها هي التي تستطيع أن تقف إلى جانبي في محنتي هذه . لأتصل بها إذن .

    جالسة, والساعات تمر ثقيلة ً, وسمعي موزع بين انتظار التقاط صوت حركة دوران المفتاح في قفل الباب وبين انتظار التقاط رنين الهاتف, أُرهف السمع لأيّة نأمة. وها إن الليل يدنو, فتُظلم روحي قبل أن يُظلم ما حولي. أنهض وأشعل الشموع: شمعة في ممر المدخل الرئيس, شمعة في المطبخ, شمعة في غرفة النوم .. شموع في كل مكان لعلها تضيء له الطريق وهو يعود حين تسرقني سِنَةٌ من نوم ... شموع قد تُبدد عتمة المكان وعتمة روحي معا ً. وأمي تنظر إليّ بعينين حزينتين وهي تستلقي على أريكة قريبة. ربما تلعنني اللحظة لأنني اخترتهُ وأصررتُ على اختياري بعنا ٍو غير أنها لم تشأ أن تثير مواجع َ مُضافة في روحي الآن. تنظر إليّ تارة ً, وتعلو حشرجة زفيرها تارة ً, وأنا الوب. جسدي ساكن على مقعد ٍ قريب ٍ من الباب, لكن روحي لا تستقر في مكان, والظلام بدأ يهمي في الخارج وفي الداخل أيضا ً, ولا بارقة امل تضيئه ُ حتى الآن.

    نهضتُ بتثاقل واتجهتُ صوب غرفة نومنا. لم تطاوعني نفسي لأن أستلقي على السرير. وكيف أستلقي على فراش ٍ وثير وهو قد لا يجد ما يستلقي عليه؟ أراني خيال ٌ متعب إياه مستلقي على ارض ٍ عارية, ملتحفا ً معطفه. وتمادى هذا الخيال أن أراني خيال دم يتدفق ينبوعا ً من مكان ٍ في جسده. أبعدت ث هذا الخيال عني. نهضت ُ وجئت ُ بألبوم صورنا. أريده حاضرا ً معي دائما ً. هذه صورتنا في أيام تعرّفنا الأولى .. صورتنا ونحن في سفرة .. صورتنا في هذا المكان .. في ذاك المكان .. صور تستفز ذاكرتي الآن. أشعر كأنني أراهُ إلى جانبي, أشم رائحتهُ, أحسُ بدفء أنفاسه, كان جسده يجاور جسدي, يحتكُ به, يزداد التصاق الجسدين ويلتحمان. أسمع صوته يحدثني:
    (( كانت طفولتي قاسية, في صباي عملتُ أجيرا ً في مقهى, عتالا ً, بائع صحف متنقلا ً, وما إن كبرتُ قليلا ً حتى صرتُ أقضي أيام العُطل الصيفية في مساطر عمّال البناء. كان علي ّ أن أعمل لأعين أسرتي وهي تقاوم غائلة الجوع. أبي كان مرميا ً في جبّ صحراوي ناء ٍ. قالت أمي وهي تردُ على سؤالي عما جناهك (( إنهُ سياسي يا ولدي )). ولم أكن أفهم أنذاك معنى أن يكون سياسيا ً فيرمى في جبّ صحراوي. الآن أدرك معنى أن يكون المرء سياسيا ً يؤمن بقضية ٍ ما ويناضل من أجلها. كانت أمي تأخذني في زياراتها المتباعدة لهُ. يحملنا القطارُ ساعات وهو يدبّ متثاقلا ً حتى يحط بنا في محطة صحراوية, ثم ينقلنا باص خشبيّ عبر طريق ٍ موحش, لا رائحة للحياة من حوله. لا شجرة, لا نهر, لا ساقية. لا شيء غير كثبان الرمل. لكننا قد نرى بيوت الشعر البدوية تتناثر في أماكن متباعدة. قال لي في إحدى زياراتنا: (( أريدك أن تكبر على عجل لتكون رجلا ً وتُكمل الطريق الذي اخترته )) . ووعدتُه بذلك. ))

    يتسلل صوتُه إلى أذني كما لو أنه يجلس إلى جواري. أمدّ يدي لأشبك أصابعها بأصابع يده, لكنها تنزلق في فراغ. أطوي البوم الصور وأحتفظ به في مكان ٍ قريب من قلبي. ولا أدري كيف سرقني النوم ُ وأنا أصيغ السمع إلى قعقعة سرفات الدبابات وهي تمرّ في الشارع القريب, وإلى هدير طائرات الأباتشي وهي تنتهك حرمة السماء.


    ****

    سبعة أيام, نهاراتها أكثر سوادا من لياليها, وهي في حالة بحث ٍ دائب عنه: من هذا المشفى إلى ذاك, ومن مركز شرطة إلى آخر. تتوقف عند نقاط التفتيش, ووراء الحواجز الكونكريتية, وفي زحام الشوارع التي لا يتم اجتيازُها بالسيارة إلّا بشق الأنفس. لا أحد يعرف عنهُ شيئا ً . لكأن يدا ً خفية ً تُكمم الأفواه. غير أن همسة قريبة من الأذن تجفلها: (( ابحثي عنه في المشرحة ! )) ما الذي يقوله هذا الرجل؟! أيّ فأل ٍ مشؤوم هذا الذي نطق به؟ تكاد تلطم وجهها وتصرخ, لكنها تتمالك نفسها. لا يليقُ بها أن تفعل ذلك في مثل هذا المكان. غير أنه ُ لا مناص أن تذهب إلى هناك, فكل الطرق أصبحت تؤدي إلى المشرحة هذه الأيام. لتذهب إذن. من الذي سيذهب معهاظ أمها؟ نعم أمها. لا أحد غيرها وقد انقطعت أخبار أهلهث مع انقطاع حرارة خطوط الهواتف الأرضية. لا بدّ أن تقنعها. توافق, لكن على مضض, وتسير خلفها بخطواط ٍ أتعبها الزمن. تلتفت غليها بين أونة وأخرى كأنها تستعجلها, والسيارات تمرق على عجل كأنها تهرب من قوة ٍ غامضة ٍ تريد الإيقاع بها.

    ليس الوصول إلى المشرحة يسيرا ً. إنهُ ينطوي على نوع ٍ من المخاطرة, وهاهما تصلان بعد لأي. تقف منقبضة القلب وقد شحب وجهُها وبدأت تشعر بنوبة دوار. تنفذ إلى أنفها رائحة غريبة تبعث على الغثيان. صف ُّ من سيارات تتراصف حذو َ الجدار المقابل, ترقد على سطوحها توابيت خشبية فارغة في انتظار المحظوظين الذين يتم التعرُّفُ إلى جثثهم. ماذا ستفعل لو وجدتهُ هنا؟

    تشق طريقها عبر الناس المتجمهرين, تاركة ً امّها تلوذ بجدار ٍ قريب. يُفزعها منظر الجثث المكدّسة في الممرات, بعد أن ضاقت الثلاجات بمن فيها. عليها أن تدخل غرفة إلى يمين المدخل, والرائحة المقززة تتصاعد كلما تقدمت خطوة. تلقي تحيتها على الرجل الذي يكمم أنفه ُ بقناع ٍ أبيض. تسمع وهي تهمّ بدخول المشرحة من يهمس: (( هل تملك الجرءة لأن تفعل ذلك؟ ))

    يفتح موظف المشرحة سجلا ً ويمرر بصره ُ على قوائم الأسماء ويقلّب الصفحات. يهمس لها: (( إنها أسماء من نعثر في جيوبهم على ما يدل على شخصياتهم. ليس هو بينهم, وليس عليك ِ غلا أن تمري بينهم واحدا ً واحدا ً في الممرات قبل ان تذهبي إلى الثلاجات. ولكن هل تقدرين أن تقومي بذلك؟ )) (( أقدر .. )) (( حسنا ً إذن , ضعي هذا القناع على أنفك ِ. )) تتأمل جدران الغرفة الصغيرة, ووسط عتمة المكان تنتبه إلى ما يستفز فيها مكامن الألم, وتعجب من نفسها كيف واتتها هذه الجراءة ُ المضافة في أن تكون هُنا وحدها مع هذا الرجل الغريب في هذا الجو الجنائزي, وقد ساورها إحساس ٌ بالهدوء الداخلي. يخيل إليها أنها تسمع صوتا ً غامضا ً . ينتبه الرجل إلى ملامح دهشتها فيتسائل بهزة من رأسه. تقول: (( كأنني أسمع نشيجا ً مكتوما ً ! )) ترى ظلال ابتسامة صغيرة تموت على اطراف عينيه:
    ـ أنت ِ على حق .. بل أن أصواتا ً غريبة تصدر في الليل, وكأنهم ينهضون من رقادهم ويتحدثون, فيثيرون فزع حرّاس النوبة الليلية. هؤلاء الحراس يروون قصصا ً عجيبة عما يرونه ث أو يسمعونه ُ !.

    عليها الآن أن تتفحص الجثث المتراكمة على جانبي الممر قبل أن تصل غلى الجثث المحفوظة التي وجدت لها مكانا ً باردا ً في الثلاجات الكبيرة. ولكن كيف ستتعرف إليه إذا كان موجودا هنا؟ أجساد بلا رؤوس, رؤوس بجماجم مهشمة أو عيون مفقوءة, رؤوس تتدلّى من أجساد لا يربطها بها سوى وشالة رقاب تعرَّضت للنحر, وجوه مشوهة .... وها هي تواصل بحثها ووجيب قلبها يتصاعد. خُيّل إليها أنها ستحتاج إلى أيام وأيام لكي تتفحص الجثث واحدة واحدة. تدعو ربها أن يفتح لها بابا ً للفرج. هل ذلك هو سروال منامته ذات الخطوط الزرق؟ والرجل يلاحقها ببصر مترقب, وربما متعاطف ٍ ايضا ً. تقترب اكثر وتتوقف عند جثة محظوظة لأنها وجدت لها مكانا ص في الجزء الأعلى من ركام الجثث. تحاول أن تتعرف إلى الوجه, لكن ملامحه كانت ضائعة تماما ً. كأن هاجسا ً خفيا ص يوحي لها أنهُ هو. تقول للرجل الواقف قريبا منها: (( أرجوك .. اتركني وحدي قليلا ً )) ينسحب من دون أن يدري ما تنوي القياه به. تمد يدا ص مضطربة وتُنزل سروال المنامة وسرواله الداخلي, وقد تيبس عليهما الدم, ويتجمد بصرها وهو يقع على الشق الهلالي الضيق أسفل السرّة. إنهُ هو إذن. تشعر بدوار وتكاد تنكفئ على وجهها, ولكنها تتمالك نفسها حين تحس كان يدا ً تمسك يدها وتضغط عليها. تقترب برأسها من الرأس المدمّى, وتحار من أين تُقبل الوجه. لا تستطيع أن تكبح جماح الرغبة في تقبيله. لتكن قبلة ً أخيرة .. قُبلة َ الوداع يا ألهي. تلامس شفتاها طبقة الدم المتخثر المتيبس على بقايا الوجه, ويخيل إليها أنه يريد ان يهمس إليها بشيءز لعله يريد أن يوصيها ببقيته التي أئتمن رحمها عليه. لا تدري كيف انفلتت (( لن يذهب دمُكُم هدرا ً )) مهموسة من بين شفتيها. تحس كان الدموع تتحجر في عينيها, فتعجب لذلك. يستفزها وهي تنحني عليه, صوت الرجل قادما ً من مكان ٍ قريب: (( هل عثرت ِ عليه؟ مبروك إذن! )) لا تدري أتضحك أم تبكي. الرجل يبارك لها فهي محظوظة إذن! لا بُد من أن تفعل شيئا ً. تنزع نفسها من المكان على مضض, تسير صوب الباب الرئيسي وهي تترنح, فتساورها الخشية من أن يتهاوى جسدها بين الجثث. لا تريد أن تتخاذل أو تضعف أمامهُ, وما يزال النشيجث يتردد ولكنه ُ ليس مكتوما ص هذه المرة. يخيّل إليها أنه يستحيل إلى نشيد صادح. تشعر وهي تسير أن كل مشاعر الألم والحزن والمرارة تتجمع في داخلها وتبدأ بالصعود إلى حنجرتها. وما إن تتنفس هواء الشارع, وقد استبد بها الدوار, حتى تنطلق صرخة (( لا )) مدوّية, قبل ان يتهاوى جسدها ويرتطم بالأرض.





    نشيج مكتوم - ناطق خلوصي

    نقلها : عابر سبيل
    4/7/2009 منتديات أحلام مستغانمي

    ReplyDelete
  2. إلى عابر سبيل

    عابر سبيل
    أهنئك على اختيارك القاسي
    المؤلم جدا

    كان لا بد لكل حبيبة أن تبكي
    ولكل حبيب أن يشعر بالموت ليكتشف كم أنه يحب الحياة لأجلها

    اختيارك لنص المبدع ناطق خلوصي (الانموذج الثقافي العراقي المتفرد) اختيار ملهب للشجن الأصيل الساكن في أعماقنا .. مثير لفض المآقي الحبلى بدمعنا

    شعرتننا نشعر بطعم الحب مضاعفا
    شكرا لك

    وملحوظة صغيرة
    قصتي (مركبي الخامس) لا يساوي عشر العمق وثورة الجرح الذي رسمه الأستاذ ناطق في رائعته
    ربما كان أقسى على أبطاله حين فرقهم وقتلهم في حين كنت رحيما بأبطالي فجمعتهم
    لكن الغصة الحارقة في "نشيج مكتوم" صهرت الغصة الحارقة في قصتي فشعرت أسطري بالخجل وانحت إكراما لذلك الحب الذي نغامر به...

    تحية لك

    ReplyDelete
  3. جميلة كتاباتك وجيل هو احساسك
    تحية لك وللعابرين من هنا

    ReplyDelete