مبحر على عتبات الحرف

مراكب سكرية للحب: المركب الأول

الـحـب.. بــعــيـــــون أمــــــي

تفتقنا من الأرحام زهورا باسمة تسبح في النور بعدما كنا أجنة تعوم في الظلمة, حُملنا على الأكف أقزاما, عيوننا دامعة وأفواهنا جائعة وأصابعنا لا تتوقف عن الحراك, ننظر بشوق في كل الاتجاهات, نجري بلا توقف, نريد الإمساك بكل شيء, وامتلاك كل شيء, نميل إلى احتضان تفاصيل الكون, وتحسس كل قطعة فيه من خدود أمهاتنا إلى أصابع الأب, من أجنحة الفراشات الرشيقة إلى أذيال العقارب أو ألسنة الأفعى.. لم يكن يخيفنا أي شيء يواجهنا حين نحبو, لا يرعبنا ظلام الليل ولا يوقظنا هزيم الرعد...

كبرنا قليلا ً .. لتتفتح أحداقنا أكثرَ على ما يحيط بنا بين تلافيف هذا الواقع اللامتناهي .. ونستمر في البحث .. ويأسرنا الفضول ... ويردعنا قليلا ً شعورنا بالصغر الفظيع لأجسامنا تلك بين خضم الشهب والمجرات ... فنركن إلى التأمل المريب .. ونطرح الكثير من الأسئلة ........ أمي , من أين أتيتْ ؟ ... وكيف ؟؟؟.. ولماذا تزوجت ِ من أبي ... أماه .. , أين كنت ِ قبل مليون سنة ... , ولماذا خُلقت ِ بهذا الزمن بالذات .. ؟؟ هل كان أبي يعرفك ِ قبل أن يولد ...... ؟؟
لم نكن سذجا ً ... بل كنا نتهيأ لولوج عالم جديد .. أعمق من غياهب الكون .. وأجمل من أعماق البحر التي لا يراها منا أحد ... تجيبك الماما بابتسامة ... ستعرف كل الأجوبة حين تكبر يا بني ... سوف تفهمين كل ما يحيرك ِ بنيتي بعدما تتزوجين..

تكون تلك بدايتا للإنكفاء على اكتشاف الذات , نكون وقتها قد سئمنا بل ارتوينا من التحليق كما الصغار عبر السماء كما الكواكب والنجوم .. ومن السفر مغامرين عبر الغابات والوديان وأصناف الحيوان .... نكون فعلا ً قد تشبعنا من التساؤلات التي تسد نهَم عيوننا .. تلك التي لا تتوقف عن النظر إلى كل شيء ٍ يحيط بنا دون أن نفكر لحظة ً في التطلع إلى الداخل .... داخلك أنت .. فأنت بحد ذاتك عالم .. عالم مستقل شاسع ٌ جدا ً .. مثير ٌ للفضول ومليء بالأسرار والعجائب ... لم تفكر لحظة ً فيك أنت ... إلهي .. أين كنت ُ؟ ... كيف خفيَ عني أنني أنا الذي يملك كل هذه المشاعر.. متأخرا ً اكتشفتُ أن القلب ينبض .. ينبض بطريقة مغايرة لتلك التي تعلمتها في المدرسة ... ربما حسبت ُ يوما وأنا أجري عدد دقاته, لكنني لم أتوقع يوماً أن هذا القلب المظلم قد يحرمني النوم .. أو يمنع عني الطعام ... أو يجعلني أشعر بالسعادة المطلقة .. أو الحزن المعتم ..... أشعر بشيء ٍ غريب يصاحبني لدى أعماقي.. تجاوزتْ حالات الحواس الخمس تفسيراتها الكيميائية و حتى الفيزيائية البسيطة ... حواس ُ اليوم أشعرها أصعب وأقسى وأعمق ... إنها تثيرني .. تهزني .... تمنحني الرغبة في احتضان قلب ٍ ما ... قلب ٌ أحبه, أحبه كما لم أحب َ يوما ً في حياتي... كنت ُ دوما ً أقول لأمي ... كم أحبك يا أماه ... كم أحبك ِ ... حسبت ُ فعلا ً أنني أعرف الحب .. لكنني اليوم أحياه فعلا ً بشكل مختلف :
- أمي ....
- نعم بني .. هل تريد ُ شيئا ً ..
- لا أعرف ...
- ماذا بك ... أنظر إلي ّ .. أتهرب من عيون أمك ...
- أمي .. لا أعرف .. لا أفهم .. إنها ....

- إنها من ؟؟؟ ......
- هل أحببت يا ولد ... من ؟؟؟؟ .... هيا قل ...
- أمــــــــــــــــــــــي ... لم أقل هذا ...
- اهه.. أعليّ أنا يا كبدي .. أقرأك َ من عينيك .. من ؟؟؟
- ...................................

وتسهر ُ طويلا ً ببراءة ِ عينيك .. وكأنك عُدت َ إلى سذاجة الطفولة الأولى, تضم وسادتك َ إليك أو دبدوبك الصغير ....تتقلب طويلا ً على فراشك الممل , تتأمل السقف لساعات ... تحدثها في أعماقك َ مطولا ً .. تسألها ثم تجيب بدلا ً عنها ...... تأخذ بيديها وتحلق في السماء ... تعيد رفقتها رحلتك الطويلة .. بين أفلاك الفضاء وجنان الطبيعة .... لم تعد تتذكر أحدا ً سواها ... ترتشف فنجان قهوتك الصباحي على بسمة عينيها , تقرأ حروفها على صفحات الجرائد , تسمع صوتها عبر شاشة التلفاز ... تحمل نظرتها معك عبر زجاج السيارات كلما سافرت , تراها بين السحب كلما حلّقت .. وتحتضنها بين رذاذ الموج كلما سبحت ... تحملها بداخلك لكنها تهرب منك ولا تقوى على النظر إليك...
أعجب ُ لامرأة ٍ لا تمنحك « كلها " فتغادرك وهي تعلم انك تحبها أضعاف هذا القدر.. تسارع بعيدة عنك لتبقى وحيدة كما المخدرة .. لا تعي شيئا مما يحدث ... وتكتفي بممانعة سكناك فيها بعنفوان الأنثى التي لم تكتشف بعد أنها من أجلك خـُلقت .... ولأجل ذلك أيضا تحاربك بشراسة .. لا تنقصها وداعة ٌ .. تحتل بها نظرات عينيك .. وتعتلي همسات صمتها تلال صوتك .. وشوقك , وكل عثراتك على دربها .. وكل أناتك و إضرابات روحك أمامها..
-
بنيتي .. هل من شيء يحيرك ..
-
لا .. لا أمي .. لا شيء
-
حبيبتي .. أنا أُم .. أخبريني ماذا هناك
-
أمي .. لا شيء صدقيني..
-
من هو ؟؟
-
أمـــــــــــــــــــــــي عمَ تتحدثين ؟؟
-
سألتك ِ من هو ؟؟ أين رأيته ؟ هل حدثك في شيء .. ؟؟
-
أمي ..... لا شيء .. دعيني أنظف المائدة ..

تتكسر الصحون بين أيديها لأنها لا تستطيع التوقف عن التفكير به , هي تهرب منه حتى في أعماقها .. إلهي .. من أنا ؟؟؟.. لم أشعر بهكذا حيرة قط ... شيء ٌ ما يلاحقني في أعماقي .. يطاردني .. لماذا أنا؟ .. لماذا الآن؟ ... لا أستطيع نسيان صوت عيونه .. إنه يكلمني بصمت ... أاشعر بالحزن بقدر شعوري بالسعادة .. لا أريده .. لن أستسلم له ... هل سيكلمني غدا ً ... هل سأراه .. متى ستشرق الشمس؟ .. أريد أن أراه ... أمي .. أين أنت ِ ؟.. ضميني إليك ِ .. أشعر بالخوف...

قلوب ٌ جديدة ٌ فعلا ً .. ليست تلك التي عهدناها ... وعالم ٌ جديد ... تحول المحيط الذي كنا نطارده من حوله .. إلى مجرد ديكور ... تتصلب الطبيعة فيه ولا تتحرك .. أما الكون فلم يعد أشسع من قلوبنا الكبيرة .. قلوبنا التي صارت سلطانا للجسد, القلوب التي بدأت تستغيث بالعقل كي لا يكسر نشوتها ... لا بُد من تفسير لكل ما يحدث ... لم تعد تكفيني الأسئلة التي أطرحها على أمي ... ولست ُ أدري لماذا أؤمن بأن أبي لا يفهم مثل هذه الأمور ... لا أستطيع أن أحدثه بشيء ... مستحيل صخب هذا الصمت ... من سوف يساعدني يا إلهي ... أريد أن يشعر بي أحد ... لماذا يخيفني الآخر؟ ... لماذا يهرب مني بقدر هروبي منه؟ .. لماذا لا يتلهف إلى لقياي بقدر لهفي إلى لقياه .....كيف لي أن أقرأ صمته .. كيف لي أن أسأله .. هل تشعر بما اشعر؟ .. هل تحدثني بذات العمق الذي أحدثك به؟ .. متى ينتهي هذا الحب ؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟
الحب !!!!!!!!! إنني أتحدث عن الحب ... عجبي ... لم أكن أعرف عن الحب ما أشعر به اليوم .. لكنني أتحدث عنه وبطلاقة .. إنه يلاحقني مثل ظلي دون أن أتمكن من ملامسته ... إنني أرقبه على ندبات القمر كل ليلة دون التمكن من السفر إليه ... أماه .... لم تخبريني أن الحب جميل إلى هذا الحد ,؟؟؟ لما لم تروِ لي يوما ً أنه قدري الذي لا يمكن لقلب امرأة ٍ أن تتملص منه ... لماذا لم أتهيأ له بالقدر الكافي يا أمي؟ .. ليتني بقيت طفلة ... كم أخاف من تمرد أحضانه يا أمي

أعجبُ لامرأة ٍ .. ترمي بكل ما لها .. أو فيها ... بين أعماق رجل ٍ ..لم تكن تعرف عنه .شيئا ً ولا تزال بعد .. لم تعرف عنه كل شيء ..... كيف تغامر النساء بأنوثتهن يا أمي ..

- بنيتي ... أتشعرين بالخوف علي ّ من أبيك ...

- لا يا أمي ...

- أتخجلين بي حين أتأبط ذراعه .. أو أرمي برأسي على كتفيه ..

- أبدا ً أمي ...

- أنت كذلك .... غدا ً ستؤمنين بأن هذا الحب سرُ بقائك ِ على قيد الحياة .. وستكتشفين أن الله لم يخلق القلوب لتضخ الدماء إلى سائر الأعضاء فحسب ... بل لتحافظ على جمال الحياة واستمرار الكون, إن كل هؤلاء البشر الذين تم ّ عدهم منذ خلق آدم وحواء إلى آخر مخلوق على وجه الأرض ... هم تفاصيل قصة حب سرمدي تتجاوز تناغم الأجساد ومعزوفة الأيام ... إنهم نشيد هذا الحب الذي خلقه الله وظيفة ٌ للروح كما خلق التنفس والغذاء وكامل الوظائف الأخرى لتلك الأجساد ..

القلب أرضك.. والحب حضارة .. فهل يحيا الإنسان بعيدا عن أرضه وهل يرسخ في الحياة بلا حضارة؟.. يولد الحب فينا رضيعا ً كما ولدنا .. لا يعي متى و لماذا أو كيف .. فهل نصده .. ؟؟ أو نحضنه ونحميه ونرعاه ؟؟.... لماذا نعزل هذه المشاعر عن مسارها الطبيعي لسببية الوجود في هذه الحياة .. لماذا نفصلها عن فكرة الخلود الأبدية ...

- أمي .. هل أحبك ِ أبي ...

- بجنون ....

- وهل أحببته ِ أنت ِ ...

- طبعا ً هل عندك شك

- هل صارحته بذلك قبل الزواج ؟

- لا ..

- هل صارحك ِ هو؟

- بنبل ... لكن كبريائي قاومه بعنفوان أنثى ...

- إذن لم يظفر منكِ بأدنى اعتراف بالحب ؟

- أبدا ً .. إلا بعدما ارتبطنا

- وهل ارتبطما بسرعة ؟

- كلا ... لقد تجرع مرارة ً من علقم حرمته طويلا فرحة قلبه بوجودي

- حرام ٌ عليك ِ يا أمي .. لماذا ؟ إنه أبي

- لكنني لم أكن أعرف بعد أنه أباك.. يجب أن يشعر بصعوبة ذلك ... فالرجل إذا طال مناله بسرعة .. هان عليه تركه بسرعة ... هو لن يحياه إلا مرة واحدة .. وأردت أن أكون أنا تلك المرة.

- أوليس في هذا بعض القسوة يا أماه ؟

- إنها لا تقل قسوة عنه بنيتي... ألم أقل لك ِ إن الحب حضارة ... وأنه كرجل يجب أن يتعب من أجل ذلك القلب .. ويجب أن يشعر بالمرارة ... ولكي يصبح ملكا ً على قلبي لا بُد ّ أن يحارب .. أولم يسمي نفسه يوما ً بذلك الغازي القادم من المريخ ؟ ... إن مروج الزُهرة بنيتي .. لا تطؤها قدم محارب فاشل .. كان يحارب لأجلي بالفطرة ... أما أنا فقد كنت أقاوم كذلك بفطرتي ... بنيتي, يجب أن تكون المرأة صارمة كذلك .. وإلا صارت لكل الرجال .. فهي لم تخلق إلا لتكون لرجل واحد .. واحد ٍ وفقط ... ذلك الذي يحتلها من كل جانب ... ويحاصر قلبها من كل صوب .. إنها له .. ذلك الذكي الذي يكلل قلبه من أجلها .. بالصبر الجميل و بالصدق البلوري فقط ليظفر بأروع نفائس حبها ذاك الذي سيحياه حد الطمأنينة ..

- أمي, لطالما كنت ممانعة إلى هذا الحد, فكيف عرف إذن بحبك ِ له وبقبولكِ به ؟

- يا بنيتي .. تقف المرأة الشفافة مفضوحة أمام قلبها, حائرة ً أمام قلب من تحب .. لا تستطيع البوح بشيء .. فتمتهن الصمت لغة .. دون أن تنكر قلبهُ الذكي .. والذي سيقرأ كل شيء .. حتى لو لم نتلفظ بشيء... القلب أرضه حبيبتي.. وعلى هذا المحب أن يكون فارسا لا يكل للوصول إليه وينعم بمجده ... وعليه كما عليها أن تتعب أكثر للحفاظ عليه .. لا مفر من أن نتألم أكثر لنواصل المسير على درب هذا الحب .. الحب ُ رحلة ٌ بلا بداية .. و رسالة بلا نهاية .. إكتشافه مغامرة .. والعيش به ثورة .. والرضوخ له جَنة ٌ .. نتوجها بإكليل الإرتباط ليلة النصر .. إن الحب أمانة .. والسهر على صونه ورعايته هو مجد للسعادة .... سعادة قلبك .. وعقلك .. وروحك .. وضميرك أيضا ... الحياة ُ له ُ سكن ٌ لجسدك .. وراحة ٌ لوجدانك .. ... ها قد كبرتِ بنيتي.. ولم تعودي صغيرة ً لتجدي عندي كل الأجوبة .. يكفي أنك توقفت ِ عن طرح الأسئلة .. لتكتشفي أنك نضجت ِ بما فيه الكفاية لتتمكني من اتخاذ القرار الأنسب .. في الوقت الأنسب .. مع الانسان الأنسب ...

إنها حياتك ِ التي بدأت للتو ... فإياك ِ أن تنكري صوت القلب .. لأنه إذا نطق لا يستطيع إسكاته أحد .. وإذا استيقظ من السبات, يستحيل بعدها أن ينام .. بنيتي .. هلا أخبرتني الآن .. من هو ؟؟؟ وكيف عرفته ؟؟ وأين ؟؟؟؟

هل يشعر بي في هذه اللحظة يا ترى ؟؟ هل يفكر ُ بي .. لم يعد بمقدوري الهروب أكثر .. كما لم أعد بقادرة على الصمود ِ خلف قضبان الصمت .. لا أستطيع أن أقاوم... أشعر بذلك ... فهل سأنهزم ؟؟ .... إنه يخترقني بلا أسلحة .. ويحتلني بلا غزو .. من أنت ؟؟؟ .. إنك تسري في دمي بلا تأشيرة .. وتستبيح أفكاري دون أن أعارض .. أين كنت ؟؟ ... أرجوك خذني بعيدا .. أرجوك ارحل ... لم أعد أعرف .. هل سأنتظرك؟ .. أم منك أهرب؟ ... أكلمك في أعماقي دون هوادة .. وحين تقف أمامي ..يصبح لساني مثل الأبكم .. أين أنت ؟؟ .... لا تلمني إن هربتُ أو تمردتُ أو إن صمتتْ.. فلم أعد أستطيع نكرانك أكثر .. أرجوك عد .. وضم حنيني إليك ولا تتردد .. لأنني لم أعد بقادرة ٍ على التنفس خارج حدود قلبك .. ذلك الذي أحبني .. أنا .... أنا وفقط ...... ضمني إليك .. لم أعد بحاجة ٍ لأن أتكلم .........

شكرا ً أيها الحب.. وتحياتي لقلبِـك ...

.................

بقلم سليم مكي سليم - 16 يونيو, حزيران 2008

No comments:

Post a Comment