مبحر على عتبات الحرف

استفزاز للضمائر أو اتجار بالقلوب ؟؟؟

لم أكن يوما من عشاق دواوين الغزل, وكان يكفيني لأرتوي من ظمأ الحب أن أقرأ بعضا من الصمت على عيون من أحب...
ولست أيضا من قراء الجرائد وكان يكفيني متابعة شريط الأخبار على قناة الجزيرة مرة كل يوم لأعرف إن كانت القيامة ستقوم غدا أو أن السلام مع إسرائيل - إرضاء لأمريكا- لا يزال حكاية الغرام لدى سادتنا الساسة العرب...
كانت بيروت تحترق ذلك اليوم, وفي أمسية ذات التاريخ الملتهب والذي لقبه الملائكيون بانقلاب حزب الله أطل "العراب" من "الأم بي سي" على جمهوري العربي التعيس.. طبعا بحكم أن العراب كان لا بد أن يكون محنكا في التجارة بالقلوب المتعبة ليجيد اختيار الوجوه المناسبة لليوم الأنسب... ومن حسن حظه أنني و صدفة تلك الليلة فتحت التلفزيون لأستقبل على تلك المحطة بالذات اسما جميلا كم كنت أحب سماع صوته ولم أزل... كانت طبعا ضيفته المحبوبة, أنشودة بيروت يا ست الدنيا.. ذلك الصوت الذي كانت كلماته أغنيتي لكل يوم ... لكنها ولسبب ما لم تصبح نجمتي بعد .. لقد كانت جميلتي أيضا باعتراف من عمتي, لكنها أيضا وبعد عملية التجميل لم تبق أنموذجي في التميز العربي ولا سفيرتي لدى الجمال الطبيعي المميز .. هذا مؤكد... لكنني تركت القناة مفتوحة.. ولم أكن بحاجة إلى سماع الطرب بقدر حاجتي لسماع رأيها والإحساس بشعورها اتجاه ما يحدث في بيروت .. فقد كان فعلا أكبر خطب .. وبيروت كانت تحتضر ... وقفت "ماجدة" بهدوءها المعتاد, بحسها الرزين تبكي بابتسامة دموع الفنان بكل ما أوتيت من أنين يخضب صوتها الرخيم .. حكت وعبرت... وأبدعت في رسم صوت الله, وحلم الرب .. تصدح بروح السلام والترفع عن الأنا .. بنكران الذات .. بالصدق في المحبة .. لقد كانت شعلة سلام .. أعترف .. لا تزال تملك روحا تستحق الحب والإحترام... وأطفأت التلفاز.. ثم نمت.
لتستمر قصة "العراب" في اليوم الموالي .. كنت أرقب شموخ الشجر عبر زجاج الحافلة .. وعند منتصف الطريق نزل أحد الجالسين قربي وترك الجريدة.. وغاب في الزحام .. أججتني العناوين الحمراء على جل الأعمدة.. كلها تغريك بفظائع الدم .. قلبتها سريعا ثم وقفت عند صفحة الثقافة .. والفن ؟؟؟ .. كل الأخبار تطبل لأشباه هيفاء وهبي بالزيادة أو النقصان .. وتستقبل بالورود في صباح هذا اليوم "مريام فارس" بلباس هستيري في مطار دبي الذي لم يعد يهمه أن يبقى محتشما كبوابة الشعب المحافظ احتراما لأمثال هاته المغنية , كيف لا وهي نجمة روتانا لهذا المساء , وستوقع .. في دبي ستوقع .. علامَ؟ .. على كل شيء مؤكد .. إلا على شيء فيه رائحة الطرب الأصيل أو عراقة الفن ... تمنيت لو أن تلك الصحافة المدججة في صالة الاستقبال أو أن تلك الباقات الزهرية كلها حفظت ولو ببعض من الصور عنها لتلصق على جدران ذات المطار غدا, فقط لأنني أعرف بأن الكثير من نجوم العلم والفكر والأدب والدين والموسيقى الأصيلة والرسم السخي لم تتأخر يوما عن زيارة جل عواصم العرب رغم أنها تعلم علم اليقين,بأانه لن يسمع بوصولها أحد, ولا برحيلها أحد... من المسؤول يا ترى؟ .. من الأهم؟ ... من الأولى؟ ... لقد تعبت فعلا من البحث عن أجوبة ... وعلي أن أتوقف عن التفكير.. حاولت أن أنسى .. تنسى من؟
لقد شعرت بالألم أكثر ... حينما تذكرت بعضا من مآسي القلوب المضطهدة سياسيا خلف معابر الحصار الحزين... لم يعد يثيرنا في عالمنا العربي شيء فظيع, لا في عالم الساسة ولا في عالم الراقصات و الطبالين... لقد استضيفت "ليفني" ومعها "باراك" مؤخرا في المنتدى الاقتصادي لشرم الشيخ, و رأيت كم أن الاستقبال كان دبلوماسيا جدا وبالتالي سوف تجمل الصورة, وبدت محفوفة بأشجار الورد على ضفاف البساط الأحمر في قصر الرئاسة.. لتلمع ومضات المصورين الحنونة على قبضة سيدي الرئيس وهي تعانق أصابع الأحبة من إسرائيل بكل عمق, بينما في ذات اليوم يدخل إلى السرداب المظلم من خلف الحواجز وبصمت جنائزي ممثلو "شعب غزة وحماس" أبطال الحصار والمقاومة رغم كل عيوبهم, ليقفوا إلى جدار قاعة خلف بعض كراسيها التي تشبه مدرجات ملاعب كرة القدم, يدلون بتصريحاتهم الجريئة أمام عدسات محتشمة, في وحشة المكان الخالي إلا من صحافيي بعض القنوات وليس كل القنوات.. إنهم كما المصابون بالجرب لا يقربهم أحد... من نحن؟ .. نحن العرب... ولو
لم أعد أستغرب لحدوث هذا في وطن أصبح المعقول فيه بلا عنوان, وصار لغياب "المفترض" و"المفروض" عبارة واحدة تستطيع أن تعبر عن الإحباط الملموس بأفظع تعبير, إنها كلمة وللأسف لا يفهمها إلا الجزائريون: "نوووورمال" ... أجل نورمال.. و"عادي" جدا أن يحدث هذا في أمة تشتت أطرافها الملتحمة بين حقائق سماوية: من هو "العدو الحقيقي" ومن هو "الحبيب"... هل نحن أغبياء إلى هذا الحد؟ أم نحن عملاء على المباشر ولا تهم في نظر الشعوب ولا التاريخ كيف ستوظف الصورة؟ ... فعلا ما أتعسنا بالسياسة وبالساسة.. و تعاستنا من جراءها تلاحقنا حيثما ذهبنا... حتى في الأدب, حتى في الرياضة, حتى في الفن.. حتى في المواصلات ... حيثما كنا, نشعر دوما بأننا عرب...
لكن.. ما قصة المواصلات؟؟؟ ... لقد تذكرت... إذ انتفضت الحافلة عناقا لحفرة قديمة لم تـُصلَح من شهر, مم جعلني أستفيق من غيبوبتي مواجها صفحة الجريدة وهي لم تزل بعد مفتوحة في ناظري بكل ملل... عدت إلى الأعمدة وعمدا, بل هروبا نزلت إلى آخر عمود من صفحة الثقافة الراقصة... لقد وجدت هذه المرة عنوانا بآلاف الدولارات... طبعا دولارات التجارة المقنعة باسم الفن... وأي فن؟ .. الحكاية تجاريا بسيطة .. لأن الموضوع يتحدث عن أحدث قائمة بأول عشرة أسماء فنية عربيا هي الأغلى أجرا لدى المحطات الفضائية, ولأنها الأكثر طلبا على الشاشات بحكم أنها الأكثر حبا لدى الجمهور, فهي الأكثر سعرا .. ولا بد أن نتفاوض ...
الزعيم "عادل إمام" يتربع العرش الرجالي بحوالي 75 ألف دولار مقابل استضافته في أي برنامج وكان برنامج "هالة شو", أفظع صفقة .. ومرحبا بالإثارة... أما نسائيا فقد حلت مطربة بيروت الملائكية الأولى, وضيفة العراب, بحوالي 60 ألف دولار ... يليها للأسف موديل الإغراء الأول "هيفاء وهبي" رفقيل "نانسي" أو ربما "أليسا" بـ 40 ألف دولار للمقابلة ويحلو السهر... . طبعا هذا شرط قطعي من "الفنان" لحضور البرنامج وليس عرضا من القناة أو هبة من الجمهور ... يا أخي يصطفلو ... لا أحد يدفع شيئا من جيبه.. إنهم بارونات الثراء يتاجرون.. أصحاب الفضائيات رفقة أصحاب الأغنيات ...بكل بساطة يعملون.. يتفاوضون... هكذا البزنس.. ما دخلك أنت؟ ..
سألت نفسي: و"الفن"؟؟؟... فأجابت نفسي: من نصبك وكيلا عنه؟..
والجمهور؟ ..هل اشتكى لك أحدهم؟...
والروح .. والكلمة؟ ... يعني "العراب" كان يفاوض .. فليفاوض.. ما شأنك أنت؟
و"ماجدة"؟ .. أتقايض جمهورها على لحظة يستمتع فيها برؤية روحها دون صوتها؟..بأي منطق تفكر.. تدافع عن من؟.. ما شأنك قل؟

لا شأن لي صدقوني.. فقط أفضفض.. أوليسوا ديمقراطيين؟... أعبر عن رأيي... فليعفونا من الديمقراطية إن لم تكن على مقاساتهم... رجعت إلى بلاطو الأم بي سي, وتخيلت المشاهد الملك... لم تكن ملكا أيها المشاهد... كنت ورقة مربحة... كنت صفقة ... لتقف بسذاجتك كمتفرج أو بطيبتك كمعجب.. لم تكن سوى قطعة على رقعة الإتجار بالقلوب ... القلوب العطشى للجمال.. للسكينة .. للفرحة .. وللحب .. وأيضا للغريزة ... فلم يعد للفن موانع .. تخيلت ما كان خلف الكواليس تحضيرا للمقابلة .. كيف كان الحديث ... "تجاريا محضا" ... لقد تذكرت كلمات "ماجدة" على البلاطو... وكم كانت تنبض بالحكمة والبراءة والنبل .. تذكرت شجنها العميق .. وحلمها الجميل في أن يعم الكوكب "سلام المحبة" و"سماحة الرب"... وتذكرت أيضا الـــ 60 ألف دولار ... وتساءلت .. هل يتاجرون حتى برغبة الجمهور والمحبين من المعجبين في رؤيتهم وسماعهم ومعرفة المزيد عن رؤاهم وأعماقهم وأسلوبهم في ممارسة الحياة؟ ... لماذا نجعل الآخرين يحبوننا إذا كنا نعجز عن بذل العطاء بلا مقابل؟ .. أم أن الفن صار مهنة للتجارة بالحب, وبالقلوب التي تبحث تواقة عن الحب وبالحب؟ .. هل تبقى للفن رسالة إذا ما كانت هذه غايته؟ ... المزيد من الثروة, المزيد من الربح...
كم اشتقت لفيروز .. ولسماعها تتحدث؟... ألا تتفاوض فيروز مثلهم؟ لقد غنت في دمشق "صح النوم"... ألأجل كرامة الفن وعزة تلك القلوب.. غنت للبلد المقاوم... أينذر ظهورها على شاشات التلفاز..لأنها لا تساوم..ولا تفاوض؟؟.. أين فيروز؟؟؟... تستحق المليون دولار.. لكنها لم تزر أرض الجزائر؟.. وتكاد أيام حياتي تنتهي دون أن تنتهي الأشئلة؟ ... تعبت من طرح الأسئلة وتوقفت عن البحث عن إجابة .. بعد أن تذكرت للتو أن الجميلة "ماجدة الرومي" حين زارت الجزائر, أخذت الكثير من تصفيق القلوب ومن حرارتها ومن شغفها, وتشبعت من حبها ومن فرحتها واندهشت من هنافاتها التي لم تكل وأغرقتها في الختام كتل الهدايا ... ثم رحلت لتكتب الصحافة في يوم الغد كم أنها أخذت أيضا الكثير من أموال الشعب المودعة في الخزينة, كانت بالملايين .. مليارات السنتيمات .. اللهم لا حسد... فهو أجر الحفلات "المتفاوض عليها مسبقا" وهي لم تسط على مال أحد .. لكنها تأخذه مثل الجميع باسم الفن .. إنها لا تلعب بصوتها يا ولدي ولم تأت لتفرح قلوب القبيلة أو لتنعش وجدان أحد من أجل نشوة الفن.. إنها تأكل الخبز .. ولو.... أما هم –مسؤوولونا- فيهمهم أكثر تبذير المال العام على الحفلات الضخمة والولائم السمينة.. يحتاجون الفكة... ونحن فعلا أغنياء.. ولا يوجد والحمد لله في بلداننا من المحيط إلى الخليج ربع مواطن يموت قهرا تحت مذلة الجوع والبرد والمرض والحصار والانتحار من الغيظ ...
فمرحى للعرب في آخر الزمان .. نرقص ونغني والجياع بالحصى فوق البطون نيام...
مزقت الجريدة .. وتوقفت الحافلة عند آخر محطة ولم تكتب الجزيرة بعد على شريط أخبارها اقتراب موعد القيامة..

سوف أنام هذه الليلة وكلي يقين أن كل الذين مررت على أسمائهم اليوم سيوقعون بالأحمر فوق اسمي إن أتيح لحروفي فرصة الرقص تحت أحداقهم الجميلة... أجدد احترامي للكل.. لإنسانية الكل.. من الفنانين إلى الساسة.. وآمل –رغم كل ما قلته فيهم كمواقف لا كأشخاص- أن تقابل حروفي الضيقة الأفق بقلوبهم الأكبر و الأرحم, والمحبة للسلام أكثر, للتسامح أكثر... فكلنا - من صناع القرار إلى أبطال القلوب وتجار الشاشات, من فلول الشعوب الراقصة أو المقاومة إلى نخبة المتتبعين أوالمراقبين- كلنا في نهاية المطاف مجرد أحجار تتوزع عشوائيا أو بانتظام على صدر هذه المواقف والأحداث, تتناقلنا الأزمنة من رقعة لرقعة, بحثا عن الاستقرار... وعن السمو, وعن العدل الشامل .. و الجوهر المتأصل ..روحيا .. وماديا, وإلى الأبد...
لم نزل أحياء بعد, لأجل ذلك لن أكون سلبيا فأسأل سوداويتي بشوق متى تقوم القيامة لنتخلص من كل هذه المتناقضات.. بل سأسأل نفسي أين يمكن لي فعل شيء مهم من موقعي البسيط والذي يجعلني أشارك في صنع التغيير... لأنه لا بد أن نتغير ..فما لهذا الانحطاط و الإحباط خلقنا؟ ولا من أجل هذا الاختلاف في المعادن والرؤى يجب أن نكره أو أن نقصي بعضنا البعض أو أن نقاتل من لا يجوز قتاله فيقتل دوننا و لا نموت...
فالسلام عليكم ورحمة الله تعالى وبركاته

------
سليم مكي سليم – الجزائر – 26 مايو 2008

3 comments:

  1. ..............

    ميرفت Miro 6/4/2008

    ReplyDelete
  2. كلماتك مستفزة بشكل ملحوظ..هذا واقعنا يفرض نفسه بقوة.. علينا ان نقبله ولو على مضض..
    تستمر الحياة رغم الاحباطات

    6/4/2008 niddou5

    ReplyDelete
  3. لست بمصفق على أغاني أحد


    غريب أن تستفزك "كلمة" ...
    ولا يستفزنا "واقع"... بشع
    هل تصلحه بالتصفيق؟؟؟
    سليم مكي سليم 6/4/2008

    ReplyDelete