مبحر على عتبات الحرف

حـــــــزنٌ لازوردي .........

حين التقيتُ به, لم أصدق نفسي لما لمحت الدموع على خديه, أمحمدٌ يبكي؟ وبصوت مخنوق ومحموم ومكتوم؟ .. ليس محمدا من أرى, لأني ما هكذا عهدته مذ عرفته. لقد كان محمدا أقوى مني ومن جميع الذين يعرفهم حتى في أصعب الأزمات تراه باسما عصيا.. حتى أنني لم أره يبك مطلقا يوم توفي ابن خالته الوحيد "وحيد".. محمد هذا كان ولا زال أكثر صبية أهل الحارة بشاشة وصلابة وهدوءا, وكانت البسمة لا تفارق شفتيه ولا عينيه على مدار العام, صحيح أنه كان يبدو أحزن البشر وأكثرهم شرودا حين يختلي بنفسه لكنه أيضا كان أذكانا جميعا حين يقلب ذلك الشرود الغريب إلى فرحة تنسي القادم إليه أنه كان يفكر أو يهتم...

محمد, رغم غرابة اطواره, ورغم كثرة ما يخفيه عنا في أعماق أحداقه, إلا اننا كنا لا نخشى عليه أبدا, لا منا ولا من نفسه, لأنه علمنا الكثير من عبر الصبر والقوة والتسامح والكفاح, محمد الذي حببه الله إلى قلوب جميع الناس, أضحى أعز عزيز على قلبي, فلا احد مثل محمد اهتم بي, ولا أحد مثله ساعدني في أزمتي, لكنني اليوم لا أراه, فأين محمد ؟؟.. أين أنت

بحثت عنه طيلة الصباح فلم أجده, في باديء الأمر لم أكترث, لأنه غالبا ما كان يغيب ويختفي دون ان يخبر أحدا, لكن المساء أتى, وأنا بدات أقلق عليه وانزعج.. كما بدأت الوساوس تراودني, إذ وعدني بلقاء في هذا الصباح لكنه ما أتى.. سألت عنه في بيته لكنهم لا يعرفون أين ذهب.. كل ما قيل لي هو انه استلم رسال جعلته يطير من الفرح لمجرد رؤيته الظرف, اختطفها من يد الساعي ثم خرج ولم يعد...

سلمت أمري لله وبقيت أنتظر, غربت الشمس وانا انتظر, وحل الظلام وأنا أنتظر, فأين محمد وإلى أين اغترب؟.. "أين ذهبت يا محمد؟"... هذا غريب جدا, بل مقلق أكثر... إذ كان من المفروض أن أراه أول النهار لكنه ما ظهر .. لقد سئمت الانتظار على هذا الكرسي المهتريء, كما أن هذا المقهى الذي تعودنا على التلاقي فيه, صار مستوحشا جدا من لسع الدقائق التي تتثاقل خطاها بين عقارب ساعتي.. كرهت الجو من حولي وكرهت النظر إلى ساعتي, وكرهت رؤية صنيات القهوة والشاي تتطاير هنا وهناك بين الجلوس السامرين.. كرهت حالي بينهم وضجرت من أهازيج الأصوات المتعالية رغم أني كنت أهوى ضجيجها وصخبها من اعماقي كلما حل المساء.. لقد سئمت وآن لي أن أفتش عنه بنفسي..

مررت ببيته للمرة الثالثة لكنه ما رجع, وكنت كلما ذهبت لأسأل, زدت اهله خوفا لأنهم أكثر قلقا مني عليه.. بحثت عنه في أركان الحارة وبحثت, ثم سألت وسألت, ودخلت كل مقاهي الجوار التي تعرفني والتي لا اعرفها لكنني لم أجدك يا محمد.. أين أنت؟

أينه يا ترى؟ وماذا أفعل ههنا.. لقد أظلم الليل وتملكني الخوف.. سألت عقلي لكنه عاجز عن التفكير, لا يغيب محمد بهذا الشكل دون أن يخبر أحدا منا, محمد لا يطيق أن يقلق الاخرون عليه.. رحت أدور مكاني, أروح أجيء , لا أدرك مكاني ولا الطريق.. فكرت أنه لو كان لي جناحان لطرت عاليا , عاليا جدا ولصرخت بأعلى صوتي: محمـــــــــــــد, أينك يا محمد؟, أرجوك عد
احترت كثيرا, ومن ضعفي استندت إلى أحد الجدران بعيدا عن بيتنا.. لا أريد لأحد أن يلحظ انزعاجي الكبير.. كما أنني أهرب بجلدي من عيون أبي محمد, قلقه الآن مؤكد افظع من قلق كل الحائرين... وبينما الحيرة تطعنني, سمعت همسا بخاطري يتمرد بي, يدوي ويلطم جدران دماغي, أنا اعرفه, إنه يشبه صوت الأمواج, صداها هزني وجعلني أتذكر البحر وأبتسم.. نعم إنه البحر, ومحمد في البحر ولا ريب..

كم كنت غبيا حين لم أفكر في ذلك من قبل, فأنا أكثر العارفين بأن لمحمد حبا شديدا للبحر يشبه حب قلبي لدمي, ولعه بالساحل البحري كولع المركب بموجته والمرفأ الليلي بمنارته... ولذلك الشاطيء الجميل في سفح تلة حارتنا وصية وسر يسلمها لمحمد كل يوم على مدار الفصول بكل مودة وووفاء وحب, لهذا يزور محمدا شاطيء البحر عند كل شروق فهو لا يبعد إلا قليلا عن تلنا... محمد لا يفضل قراءة رسائله الخاصة ومذكراته الطويله إلا على صخور يهدر الموج بجدورها, كثيرا ما يلجأ إليه أثناء فراغه ولا يمر يوم إلا ويلامس الرذاذ المالح وجنتيه أو أنامله أو رجليه...
بدون تردد هرعت إليه.. يجب أن أصل إلى هناك بأقرب وقت, أسرعت وأنا لا أفكر إلا في محمد, وفي لقاء محمد, كنت متخوفا جدا من عدم وجوده هناك.. لكن هذا لم يمنعني من الهرولة حينا ومن الجري حينا آخر, ورغم التعب الذي كان يكتنفني, إلا أنني لم أحس أبدا بدوار رأسي الذي زرعته في دماغي كثرة الدروب الملتوية والتي اختزلت بها ملل الطريق الطويل عبر المدينة, فضلت أخذ المسالك المتداخلة بين تلافيف الحارة رغم ظلمة بعضها لكنها جميعها ستقودني إلى محمد.. صوب البحر, تعثرت كثيرا ولم أنتبه.. كل هذا لأنني كنت منشغلا طوال جريي باللحظة التي سألقاه فيها. .. محمد بالنسبة لي أكثر من جار .. أهم من زميل دراسة, بل أكثر من أخ.. إنه يحبني.. وحبي له كان بقدر احترامه لي وبقدر اهتمامه بي أثناء مرضي, بل أكثر.. لقد كنت قريبا منه أكثر من أي صديق آخرو ورغم أنه كان يخفي عني الكثير والكثير إلا أنني لا أشعر البتة بالغربة عنه.. ربما لم أكن قريبا منه بما فيه الكفاية أثناء طفولتي وأننا لم نقترب من بعضنا البعض إلا بعد مرضي لكن هذا لم يمنع من أن نصبح لبعض مثل السنديانة والظل لا يفارقها ظلها أبدا إلا لحظة النوم... لقد أصبح محمدا أقرب إلي من كل الذين عرفتهم طوال حياتي.. بت أعرفه بوجوده قربي سر حبي للحياة وسر تمسكي بحياتي..

ولاح لي البحر من بعيد, ولا حت لي لآليء قطرات الموج تحت أنوار المدينة التي خيم الليلي على أركانها, مشيت مسرعا وأنا ألهث بمحاذاة الشاطيء وبموازاة الكورنيش الطويل, ذلك المتجدر فوق الصخر, تتخله أعمدة الإنارة بتيجان مصابيحها المتباعدة.. كنت أحس أنه موجود في مكان ما, مشيت ثم مشيت, وهرولت بعدما خفت مجددا لأنني لم أره بمجرد وصولي, هرولت مسارعا الأمواج التي صاحبني بصخب هديرها..
وفي نقطة تكاد تكون آخر امتداد للطريق المستقيم, رأيت الذي شدني اكتئابه من بعيد, إنه محمد..
عرفته من ألوان ملابسه, من هيئته,الوقورة, من جلسته الحزينة, من هامته المقهورة بعد الحزن... كان يضم رجليه إلى صدره, يحتضنهما بكلتا يديه, كان يستند برأسه إلى الأفق وظهره إلى العمود, رافعا عينيه إلى الالصخب المظلم المريب.. كان هامدا مثل الصخرة الصماء, تائها مثل الموجة التي أرهقها الرحيل في صمت البحر..
حين وجدته كم فرحت, وحين رأيته تسارعت خطاي من تلقاء نفسها إليه, لكنني لما وصلت .. ألجمتني دهشتي وقيدتني دمع خرساء.. ماذا جرى؟.. أمحمد يبكي؟

كان غارقا في عالم بعيد جدا, وكانت عيناه الجميلتان متوردتين وشاردتين, خطان محفوران على الخدين كالخندقين, جف الدمع فيها فتلونا بالأسودالقاتم العتسق, لقدم العبرات التي سالت هناك.. أما الرموش المستلقية على أطراف الجفون فقد بدت كأعشاب ضفاف النهر التي انجرفت في فيض السيل, ثم ابتلت فذبلت .. فماتت من الخوف..

حزن عميق جدا يا محمد, وأنت هنا, وحيد هنا.. لا يراك أحد.. حزن دفين وألم ارتسم الوجه بأوجاع لونه.. تشرب الجسم كله بالوهن... فلم يشعر محمد قط بقدومي ولا بدنوي منه... لم أشأ ازعاجه لأن أوصالي بفعل الصمت تهاوت.. جلست إليه بكل هدوء.. محمد بعد لا يتحرك.. محمد ما عرفني .. بل ما رآني.. ناديته فما أجاب وهززته فما التفت... في حضنه استلقت رسالة ممزقة وبعض الأرواق.. رسالة مددت يدي كي أسحبها منه.. لكنه أرعبني حين دنت أطراف يدي من بعضها.. اختطفها مني وضمها إليه .. وفي سكوت أسدل جبينه على ركبيته مجداا وبكى.. صدني محمد واستلم للصمت..

لا يجيبني, محمد يتعذب طول النهار وأنا هناك.. أسامر غيظي وأجالس الانتظار.. ما أحمقني.. أين كنت أنا وأين كان قلبي؟ كم ندمت لأنني وصلت متأخرا, ولأنني لم أحضر إلى هنا قبل هذا الوقت.. فمحمد استلهكه التلاشي في العدم ولم يعد يقوى على رفع ناظره إلي ولا على الكلام.. اقتربت برأسي منه أكثر.. وضعت يدي يدي على كتفيه بحنو ثم همست له:

محمد.. مالك يا محمد, لم لا تجيب

سكت طويلا ثم التفت إلي وكأنني أيقظته من سبات, نظر إلي بعدما اغرورقت عيناي ولا مست احدى العبرات يداه, رفع رأسه مجددا لألمح عيونه تبكي, بدمع براق كاد يجعله يجهش بالبكاء, عض شفتيه وقال محترقا: لقد مات
...
لم يستطع النظر إلي أكثر.. لم يقدر أن يتم جملته, فالتنهدات الحارقة انتفضت به مجددا لقدومي وحركته, هزته حرقتي عليه وكادت تختنقه الحسرات.... رفع رأسه للسماء كي يتنفس, كي يعيد بعضا من الدموع الريبة
إلى مآقيها.. لكن الدموع سبقته, سبقت حروفه وألجمته, إنه يحاول ابتلاع غصصه رغما عنها, لكنه لا يستطيع...
محمد ماذا بك؟
قلتها وأنا أحترق, لم أفهم شيئا مما جرى, ارتعشت مدامعي وبكيت معه, لكن لست أدري لماذا, وعلى من؟.. لم أعي كيف تشجعت وقلت له في صوت متحشرج مهزوز:
من الذي مات, أنا لم أفارق الحارة طوال اليوم, من الذي مات؟
كنت أشد بيدي على ساعده حين قلتها بكل أساي وحيرتي لهفى لأن ننتهي من بشاعة البكاء.. مددت يدي إلى كتفيه, أردت أن أحركه لكنه لا يجيب.. استسلمت معه للصمت وتهت فيه.. مرت اللحظات واللحظات, ثم الدقائق الطويلة والساعات, وزخات السكوت تخيم على مقلتينا, وعمها الجفاف, وظل هدير الموجات وصراخها المتعالي في سجن الليل يصيح بنا.. "حتى صخبي لم يغير شيئا" ...بل جعلنا ننسجم مع معزوفة من الصمت الرهيب, نسيت به ما الذي جعلني أبحث عنه طوال اليوم وكيف وصلت إليه إلى هنا...ونسيت الرسالة, والذي مات, ونسيت انتظاري الطويل له والكثير من ذكرياتي, وركنت إليه... غرقا في حيرة لا أعرف لها كنها, ولا سببا ولا نهاية.. لقد أدركت في كل ما أدركت أن عزيزا له قد مات, وليس عزيزا فحسب, بل هو أعز من يعرف وإلا كيف؟ كيف يمكن لمحمد أن ينهار او ينكسر وجميعنا بخير حوله..فيهوى دوننا كريشة الطير الرهيف..

استأنست لترنيمة البحر.. فلازمت محمدا بسكوتي وبقيت إلى جنبه هامدا إلى أن قام لوحده وطلب مني أن نتمشى قليلا, حينها أحسست أن وجودي بقربه لم يعبر سدى.. فقد أسهم في عودة الدفء ليسري في شرايين قليه المتصلب... لقد شعرت بأن همسي الخافت في اعماقي أعاده بروحه إلى أرض الواقع, فمحمد ولا ريب كان منعزلا كالسفينة المعطوبة في عمق الإعصار.. وحين ضممت كتفه بذراعي لم يتوانى عن اسدال رأسه على كتفي وهو الذي لا يطيق أن يضمه إليه أحد... وضع كل ثقله علي ومشى... مشى مشية المجروح الحذر.. يحاول الكلام لكنه لا يقدر على النطق ببنت شفة.. عُقد لسانه وقطعت أنفاسه الريح عن أحبال الصوت فصار لا يذكر إلا شيئا واحدا:

مات قصيْ... ؟؟؟ قصي مات ...

آثرت السكوت طوال مسيرة العودة, وامتنعت عن كل سؤال, فقد أحسست بذلك الجرح الكبير, الذي يفصل الانسان عن كل احساس بالوجود, ذلك الجرح الذي أفقد محمدا طعم الحياة لمدة طويلة, الجرح الذي حرق الابتسام التي كانت كلامه ونظره وحنينه بين كل الناس... وبنـــارِِ لا ترى.. بِنار لا تعشش إلا في الأفئدة والصدور, احترق محمد من الداخل.. والتهبت معنوياته الثائرة وقوته النادرة انتسفت.. كما دفنت روحه الرشيقة المنيرة مع نسم القلب الذي مات...
استسلم محمد للحزن واليأس ولم يبق أمامه إلا ......
........
..............
.....................
..............................

سليم مكي سليم
الجزائر - 1994

وصفحة من رواية ليست للنشر

No comments:

Post a Comment