مبحر على عتبات الحرف

الــبـــــرواز المـــهـــــــجــــــــــــــــور ..........


أدخلني غرفته ... جلستُ وطلب مني الإنتظار .... كانت غرفة جميلة جدا .. وأجمل ما فيها لوحات زيتية للبحر, كتب وكثير من باقات الزهور التي كانت منسقة عبر أركانها بامتياز, وكم عجبت للنظافة والنظام رغم أنه يسكن بالبيت وحيدا, وحيدا منذ زمن.. امتدت في ذلك الركن, طاولة معقوفة الأرجل مليحة الشكل واللون ... وزع عليها بضع من البراويز الجميلة ... فيها صور لطفولته الباسمة.. بريئة كانت .. وحائرة نظراتها جدا.. أما هناك وعلى رف مميز جدا, تربع برواز مذهب أنيق تظلله مزهرية كبيرة من ورد مخملي أحمر ... كان البرواز فارغا الا من خلفية سوداء ... حفرت عليه أخاديد القدم, فبان لافتا للنظر أكثر بحجمه المهذب وصمته المكين .........
دخل صديقي ... وكان أول سؤال مني له : لمن هذا البرواز الفارغ ؟.
التفتَ إليه ثم مشى غير مبال لسؤالي : هل نخرج الآن , لقد انتهيت .
- لكنني لم أنته من سؤالي, لم البرواز فارغ ... أين الصورة ؟؟؟.
اختطف كتابا ووقف يتصفحه قرب النافذة : ... إنه لأمي .
صمتت وقد خجلت من نفسي : رحمها الله . لكن لماذا أفرغ من الصورة ؟
- لأنها ماتت ...
وصمت منكسرا حتى حسبت نفسي اغتلت حروفه كلها, أحببته أن يجيب بأي شيء, لذا رجوته:
- أرجوك تكلم , لا تشعرني بأنني أخطأت, لا تحسسني بأني غريب .
لكن صمته ظل ماضيا أطول من كل شيء والكتاب ماثلا بين عينيه فلا ينظر إليه, يقلب صفحاته في غفلة من يديه ثم كلما استفاق لحركتهما تصلب الورق بين الأصابع... شعرت بالألم, قمت إليه وضغطت على ساعده بحنو ثم هممت بالاقتراب من الباب منصرفا دون أن أستأذنه, حين حركت مقبض الباب نطق.. وأخيرا نطق: أرجوك لا تذهب ... كان يخاطبني وعيونه عالقة خلف غمام النافذة
- أنا ما عندي صورة, أنا لم أرها في حياتي قط ...
- المعذرة , فتحت جراحك ...
- لا أبدا , أنت مثل أخي ..
- أولا تعرف عنها شيئا ؟؟.
- ليس أكثر مما روته خالتي دوجة
- من تقصد؟ مربيتك.
- أجل
- ماذا قالت لك عنها ؟؟
التفت الي بنظرة باهتة , تفرس في : - ماذا بك .. عم تفتش ؟؟؟ ...
- عفوا لا أقصد ازعاجك ؟
رمى الكتاب من يده صوب السرير ثم انحنى الى النافذة , وابتسم صوب الأفق البعيد وهو يقول :
قالوا لي كانت بيضاء
مشرقة اشراقة الشمس والبدور
ناعمة نعومة القطن ..
شعرها الليلي طويل طويل طويل
قدها مربوع جميل ..
عيناها كبيرتان .. براقتان كهالة الشمع لا الفانوس.
تغرق فيهما لو انت نظرت
دمعها تشتاق اليه ... وألمها لا حس له
كلامها كهمس الورد ... لا شوك فيها ...لسانها دوما صبور ....
ثم سكت لبضع دقائق حسبته غرق في سحب السماء ... لكنه سرعان ما ارتمى على ظهره فوق السرير,
وضع يديه تحت رأسه فوق المخدة وراح يتأمل السقف بعينين اغرورقتا خفية دون أن أشعر,
قال بصوت متحشرج مغموم وقد احتل الغضب بعض نبراته والألم :
كانت اذا ضربوها لاتشتكي واذا طردوها لا تقاوم ولا تثور ..
عذبوها الى ان مرضت
سمموها ... فقدت عقلها مرتين ثم ماتت على سرير المستشفى قبل أن يصل الدكتور.
قلت منقبضا: من فعل هذا؟. قال دون أن يلتفت الي : غريمة أبي .. ثم صمت ..
أحرقوا كل شيء كان لها ... كل ذكراها
أما أنا .. فقد نفيت الى ما وراء البحور .. حيث لا أزال أبحث عن طيف أمي, هل تفهم الآن لم البرواز مهجور؟؟؟
لم تترك شيئا وراءها ... حتى الصورة لم يبق منها الا هذا الإطار المكسور..
أخذت كل شيء معها .. ولم تترك لي الا الجراح بقلبي وبعض الدفء والكثير من الكسور .
ثم قام منتفضا الى النافذة من جديد يرمق الأفق البحري في شرود : فقط تركت قلبها ..
تخجل دموعه من عيوني, حين رفع رأسه عاليا شفط العبرة تحت جفنيه وما رآني, تعمق بناظره في وجه السماء ثم ابتسم: لا أشعر بأنها انتهت, أشعر بقربها مني, صدقني إنها هنا
أورثتني الجمال كل الجمال في قلبها... أورثتني حبها .. به أرى النور وبه أحيا كل شيء وأميز كل الأمور ..
صورتـُها مرارا بحروفي ..تمنيت لوكنت اعرف رساما يجسد طيفها في لوحة دون السطور
لكن هيهات .. هيهات ان يستطيع
اذ لا يمكن لشيء ان يكون كمثلها .. بجمالها
الا هذا البحر .. وتلك الزهور .......
هذه التي سأظل أهديها إياها كل يوم, لتؤنس وحدة قلبي قرب بروازها المهجور.

انتهى ...

سليم مكي سليم

8 comments:

  1. Anonymous25/7/08 20:15

    الأم هي ثمرة الحياة و هي رمز العطاء بلا تفان ، و قد هاب الشاعر الكبير محمود درويش من الموت لأنه يخجل من دمع أمه و ربما شبه الأرض بأمه لأنها تعطي بلا حدود و افتخر قبله المتنبي بأمه و هي جدته التي ربته و اعتبر الفرح الذي قتلها سما .
    لا أريد الاطالة ولكن من هذه المقدمة أود أن اقول لك بأن البرواز الفارغ قد يرمز الى الفراغ الذي يحسه المرء بعد فقد أمه و هو ذو تعبير وألم أشد من تعبير الموناليزا لأن ليوناردو دافنتشي عندما رسم الموناليزا قصد الجمال فقط جمال الجسد أما الأم فهي جمال الروح
    ان المرادفات التي عرضتها مثل البحر و الزهور لهي أعظم تمثيل لوحي الأم فالبحر هو العطاء بلا حدود وهو الرهبة وهو المحبة وهو الكنز المليء بالأسرار أما الزهور فهي الجمال و هي الطيب وهي الرمز الأسمى
    أما عن الاسلوب الأدبي في الكتابة فهي تدل على الاحساس الذي يحسه الانسان أثناء الألم جمل قصيرة تعبر عن الشجون و مداخلات مفاجئة تعبر عن الهيبة .
    أخيراً الحديث يطول وأعتذر ان قصرت

    جمعة عموري ..
    ---
    الرد بقلم lala
    - حلبيات في 06-15-2003 10:02 AM
    لا لا المستعار

    ReplyDelete
  2. Anonymous3/3/09 23:41

    سلمت يمناك صديقي
    صديقك

    khalid le 7/26/2008
    المخلص للوجع

    ReplyDelete
  3. وتسلم لي انت أيضا .. كم أتشرف بنظرة عيونك بين أسطري وتتشرف حروفي أكثر بزيارتك

    ألف مرحبا

    ReplyDelete
  4. Anonymous3/3/09 23:42

    ا لـغـا لـي سـلـيـم مــكـــي ...

    جـمـيـل أ سـلـوبـــك ..
    عــبــق بــوحــك ....
    مـُـبـد ع أ نـت أ خـي ..
    رسـمـت لـنـا بـريـشـة يـرا عـك ...
    لـوحـة ز يـتـيّـة خـا لــد ة ...
    أ سـعـد نـي مـروري .. وقـرا ء تـي لـنـصـّـك ا لـرّ ا ئـع ....
    لا تـحـرمنـا من سـخـا ء قـريـحـتـك

    أ خـوك نـا جـي ا بـن مـسـعـو د
    24-12-2008

    ReplyDelete
  5. ناجي

    رونقك وأنت تقرأ
    ورونقك وانت ترد
    ورونقك وانت تخاطب الروح بصمت
    ورونقك حين تحب
    يجعل المكان كله يحب روحك

    هلا أخبرتك طيور الصباح أني .... أنني أحببتك في الله
    ولست أجامل
    عجبي لمن يقرأون في فرح البوح طقطقات الإطراء
    أنا لا أقول إلا ما أحس به
    سلامي لكل عابر
    أبحروا
    تتنتهي المسافات بنا وتبقى قلوب الذين نحبهم دوما
    قرب الحناجر

    سليم مكي سليم
    مبحر على عتبات الحرف

    ReplyDelete
  6. Anonymous3/3/09 23:43

    قد شعرت في لحظة من اللحظات اني اشارككما الحوار من شدة اندماجي فيه
    فكم هو جميل هذا التعبير والابداع والوصف الرائع
    تقبل مروري
    تحياتي

    ReplyDelete
  7. تحية
    يصعب علي أحيانا أن أرد
    خصوصا في حضرة الكلمات التي يستحي أمامها أيُ كلام... مجرد كلام
    تشرفت بالحضور
    تحية

    ReplyDelete
  8. Anonymous3/3/09 23:45

    قالوا لي كانت بيضاء
    مشرقة اشراقة الشمس والبدور
    ناعمة نعومة القطن ..
    شعرها الليلي طويل طويل طويل
    قدها مربوع جميل ..
    عيناها كبيرتان .. براقتان كهالة الشمع لا الفانوس.
    تغرق فيهما لو انت نظرت
    دمعها تشتاق اليه ... وألمها لا حس له
    كلامها كهمس الورد ... لا شوك فيها ...لسانها دوما صبور ....
    *-* أرسم صورتها بالحرف
    و أعدها الى حيزها
    لتتحقق معالمها و لا تزول...
    ** جميل أخي سليم كعادتك ..نسجت سيناريو لخاطرة رائعة
    تقبل مروري
    محمد داود

    ReplyDelete