مبحر على عتبات الحرف

لا أسـتـطـيــــع ......

صفحة من رواية ليست للنشر
اقترب مني وأراد ضمي إليه معبرا عن شوق عتيق لم أشعر به.. مددت يدي واكتفيت بمصافحته... وبنبرة من الحسرة سألتني عيونه التي لم أشأ رؤيتها قائلا لي: هل نسيتي ؟
قلت له وعيوني مصوبة نحو الأمام بكل تصلب: وهل مثلك ينسى
قال لي: تبدو حزينا, هل أنت بخير؟
قلت له: الحزن جزء من حياتي, ولم يفارقني يوما أبدا
قال: لكنك لم تكن هكذا يوم التقينا أول مرة
قلت بامتعاض: يبدو أنك نسيت. كنتُ صغيرا بما فيه الكفاية
قال: لقد كنتَ طيبا, طيبا جدا والبسمة لا تكاد تفارقك
فرددت كمن يتأسف: وهل كنت تتوقع لابتسامتي أن تنتظرك طوال تلك السنين ؟
قال مستهجنا: السنين ؟, هل نسيت يوم التقينا؟ هل تذكر كم مر من الزمن ؟
أجبت: لست أذكر.. ولا أريد أن أتذكر.. كان زمنا وانتهى.
تساءل باستغراب: لمَ تعاملني بهذا الجفاء.. قطعت مسافة طويلة من أجلك, وأتيت من أقصى البلاد فقط لرؤيتك, سألت كثيرا, وصلت إليك بشق الأنفس, ولولا صورتك التي أهديتني إياها ما استطعت ايجادك... هل نسيتني بهذه السرعة؟
قلت وعيني لا تفارق الأفق البعيد: لقد مِـتَ.. في ماض سحيق, أنت ميت لأنك أردت ذلك.
صمت قليلا وقد شعر بالصدمة تفتك به: لمَ تعاملني هكذا, تحديتهم جميعا, وقلت في قرارة نفسي يستحيل ألا يسامحني بعد كل هذا الزمن..
وقف مرتبكا وطلب مني أن نتمشى قليلا: هللا سمحت لي بمرافقتك, لي كلمات أود أن أقولها لك.
أجبته: أفضل أن أسمع منك ما تريد وأنا هنا, لا أجمل من المسجد للبوح بما تريد
أجابني: فلنخرج قليلا .. لمَ تتمسك بالبقاء هنا..
فقلت مصرا: وجدتني هنا وأنا هنا أحس براحتي, لست أرغب بالخروج ولا بالحديث, أعتقد أن كل شيء قد انتهى..
تردد طويلا قبالتي, رجل إلى الخلف وأخرى إلى الأمام ثم قال مودعا والخيبة تقطعه: لقد تحصلت على رقم هاتفك, سوف أهاتفك غدا صباحا, ربما ترتاح وتتغير, ربما تنسى ما يؤلمك.
قاطعته قائلا: رجاء لا تحاول, ليس لدي ما أقوله لك ولست بحاجة لسماع شيء, إن كان بحوزتك أمر واضح تريد قوله فتعجل بالتخلص منه الآن مادمت أمامك لأنك لن تجدني بعد اليوم..
وأبقيت عيني مسهٌمتين إلى أبعد نقطة في الوجود, جعلته يحس بحق كم أنه "عدم" وليس بموجود.. كنت أشعر بالألم, لكنني لم أشأ تبيان ذلك.. رمقني كثيرا بنظرة حزن ثم انصرف وئيد الخطى وهو يقول بصوت ميت: سوف أهاتفك غدا, إن شئت التقينا لأنني غدا عائد من حيث أتيت ولن أنسى أبدا هذا اليوم ..
صمتتُ ولم أجبه بينما تنهد في أعماقي صوت يقول: ليتك لم تعد, لأنك فعلا "متْ"..

ورحل.. ولم أستطع أن أسامحه, فقد كانت غلطته في ذاكرتي أفظع من جفائي في ناظره, وكانت طعنته لي أشج من صدي له, لن اكذب على نفسي إن قلت أني نسيته, لقد عرفت صوته من أول حرف سمعته منه عبر الهاتف حين طلب لقائي, أعادني إلى الوراء مليون سنة, كنت قد تعودت على النتيجة التي أوصلني إليها غباء قلبي يومها وكم كرهت سذاجة قلبي بعدها لكوني لم اعد اعترف بطيبته, لقد كنت صادقا وكان .....
لا أريد مناقشة الأمر معه ولا مع نفسي, لا أريد عودة اسمه إلى وجودي, لقد كان "شيئا" وانتهى...
حين تعرفون القضية ستدركون كيف أني لم أستطع مسامحته, ربما كنت سأفعل لو عاد معترفا بعد يوم, بعد شهر او على الأقل بعد سنة... لكن بعد كل هذه السنين..
لا أستطيع مسامحته... لن أستطيع

----------
سليم مكي سليم - الجزائر
نيسان, أبريل 2006

5 comments:

  1. تـبـرئــة الـقـســـوة

    هناك بعض الأسماء "الحقيرة" ينقضي أجلها في حياتك فتموت.. تموت موت الأشياء, لا موت المعاني.. وموت الجماد لا موت الروح...
    وحين تسدل الستار على اسم لم يعد له في قلبك مكان فمن الصعب جدا أن تسمح له بالمرور مجددا بنعليه القذرتين فوق مروج عمرك وان رسم النسيان بعدها ألف زمن...

    ستظل تلك الأسماء الصغيرة مقززة.. تعاف لفظ ربع حرف من حروفها.. لأن صاحبها في كل شيء مات... نعم مات
    وما يؤلمك أكثر أن ترى في بعثه حيا كابوسا يكسرك.. لقد كان يمشي حافيا بالود في مقلتيك.. يطفو برفق على شطئان روحك.. فأنت الذي جعلت لأجله يومها قدس أراضيك المستباحة بالحب أأمن على قدميه من بشرة الجلد الذي يغلف جلده ذاته...

    لكنه لئيم
    واللئيم بالطبع كلما أكرمته كفر.. كما الشيطان تماما في قلب الجنة, سئم الفضيلة ثم ضجر.. وخان الحب, وداس الأمانة.. وتمرد.. .. سرق الثقة باسم الثقة من بستان الثقة ورفس ورود السكينة فيك وراح يجري..
    وليته لم يلتفت

    إلى الخلف يلتفت.. يرمقك بنظرة افتخار بأنه تفوق في الخديعة .. ويضحك عليك.. لقد احتلت عليك...
    حينها تدرك أيها القلب كم كنت غبيا... ليُظلم بسذاجتك كل المكان.. وتشعر بالخراب يعتري جل حدودك.. ويصبح ذلك الحيز الذي كان رحبا في القلب الشاسع ذات مرة أضيق من شعرة الانسان...
    يموت الحب.. أجل يموت الحب.. والثقة حب.. وحين ينطفيء الحب, يستحيل للذكرى أن تتجدد ولو كمشهد تستعيد بعضا من فصولها في نفس المكان, في غير الزمان, لتراجع ما كان يحدث..
    تمقت أن تتذكر... وتغمض عينيك.. ما مات مات .. ومن مزق صفحة من تاريخه بيديه إنسان آمن بأن ذلك التاريخ بالذات لم يكن له ولم يعد يعنيه, ولا يتشرف بأن يظل منتميا إليه.. إنه يحرمه حتى من منحة الذكرى.. ينكر عليه حق الفعل "كان" فكيف بفرصة الفعل "يكون"... حين تشعر بأن كل ضمائرك وكل مشاعرك تقسو ... فلن يصبح للعفو مكان

    أتعرف لماذا؟
    لو صفح الانسان عن شيطان الإنس على وجه الأرض فلن يصفح الله عن شيطان الجن في آخر الزمان, لأجل ذلك يا ابن آدم تمحو بفطرتك من قلبك كل من شابه الشيطان في الإثم.. في الخيانة.. في النفاق وفي الخذلان.. وتعجز كل العجز عن الصفح عنه.. لا يتجرا ابن آدم على ادعاء التسامح السماوي, إذ يستحيل على الانسان أن يكون اكرم من الرب..
    فلماذا يصفح المرء عمن لا يصفح الله عنه

    يجب أن يعاقب اللئيم, ولا عقاب أشد من غضب القلب
    فعذب السافلين إذا ظلموا بقلبك.. صدق أن غضب القلوب مؤلم جدا .. جدا .. جدا ..خصوصا لمن لا يعرف التوبة او لمن لا يعود إلى رشده في الزمن الكافي لقبول التوبة أو طلب الصفح أو استجداء الغفران

    ...
    كانت هذه اخوتي مجرد فضفضة لتبريد البعض من غضب القلب عند بطل الكاتب, ولتبرئة الكثير من القسوة التي نحملها كبشر في قلوبنا المفجوعة اتجاه بعضنا البعض..
    مؤكد أن بواعثها في النفس دفينة ..فلنحترم قلوب بعضنا البعض .. ولنطلب الصفح ان أسأنا مباشرة بعد الخطيئة لأنها لو تجاوزت عقدها الزمني المفروض لم يعد للاعتذار بعد ذلك أي معنى.. كما لم يعد للصفح مكان يطلب فيه ولا للقلب عيون تستطيع استرجاع تفاصيل ما كان منه أو له أو فيه.. لأنها انمحت من القلب الجريح بمرور الزمان دون أن تجبره أو تشفيه.

    ----
    سليم

    ReplyDelete
  2. Anonymous4/6/08 22:34

    لكل منا " سيرة ذاتية غير قابلة للنشر"
    هكذا أسميتها انا في اول ما كتبت و ها انت أسميتها رواية ليست للنشر
    على اختلاف العناوين فهي أوراق نتعرى أمامها لنصنع منها نسخة لا تشبهنا ذات زمن
    ذات وطن
    ذات قدر
    .....
    تحياتي
    صافي
    safi-alhalabi@hotmail.com

    ReplyDelete
  3. الرواية حياة...
    6/2/2008

    الرواية حياة أخي صافي
    وهي لكل إنسان شريط فيديو يحاصر حركاته, تحركاته, أنفاسه وخواطره وعلاقاته...
    حتى أن المؤمن الفطن يوقن بأن السجل الذي يخطه الملكان على كتفيه سيرافقه إلى آخر العمر وهو من حيث لا يدري تدوين لسيرة حياته وتفاعلاته و انفعالاته مع الآخرين, بالثانية, باللحظة, بالفكرة, بطرفة العين..

    فلنحذر حين نتحرك.. وحين نتكلم..
    ولنحذر اكثر حين نقتطف بعضا من هذا السجل لنضعه تحت مرأى العالمين
    سواء كنا نكتب عنا أو عن غيرنا ..بضمائرهم او ضمائرنا
    لأنه غدا حين ينشر الكتاب على الخليقة أمام الخالق.. يتذكر كل الذين أطلقنا عليهم لقب الروائيين .. أنهم لم يكتبوا شيئا لا عن أنفسهم ولا عن الحياة ولا عن البشر..

    ----
    تحياتي للكل

    ReplyDelete
  4. Anonymous4/6/08 22:36

    لا استطيع ان اعلق على ما كتبته بشيء ولا تسألني عن السبب، لكن ما كتبته مسّني بالعمق وصرت اتخيل المشهد كأنه امامي، كأني اعيشه انا..
    لن اقل شيئاً ساترك ما في القلب في القلب..
    انت تعرف جيداً رأيي
    فقط اردت ان اشكرك
    ميرفت

    ReplyDelete
  5. ألم أقل ذات مرة

    لا يُشكر قلم على نزف حرفه.. ولا قلب على نزف حبه.. ولا نهار على سطوع شمسه..

    يسعدني أن تستريح أرواحكم تحت ظلال أحرفي
    مهداة لكم

    ---
    سليم

    ReplyDelete