مبحر على عتبات الحرف

فكرة الكتابة بين أدب الفضيلة وثرثرة الإغراء

تختلف الغاية في الكتابة باختلاف المشرب الروحي والوجداني لمن يسمي نفسه كاتبا. الروح السوية روح مؤكدة, والروح المنحرفة روح مؤكدة أيضا, غير أن احداهما تحلق في السماء والأخرى تغرق في أوحال الأرض.. أما أنا فلا يمكنني أن أتخيل كاتبا أو أديبا يكتب بحبر ملوث وبقلم موحل.. فالأدب مهنة الشرفاء دوما.. وفي ثقافتنا وهويتنا كعرب أو مسلمين ارتبط الأدب بروح هذه الكلمة النقية "الأدب", أدب الروح وأدب اللسان وأدب السلوك وأدب الوجدان أيضا...

ليس أديبا بنظري من ينحر الكتابة على أوراقه بتصوير المظاهر الفاضحة أو المشاهد الخليعة أو باستعارة الكلمات السوقية والنابية بدعوى أنها الجرأة والشجاعة في الكتابة أو بدعوى أنها من صميم المجتمع ومن مستلزمات نقل الوقائع والواقع ... إن الكاتب الذي يدافع عن هكذا ثقافة "مغتربة" محضة, يجب أن يُحرَم مثله مثل أي منبر إعلامي ينشر الرذيلة ولو بشكل مقنع.. إن هذا الكاتب يرسخ الانحدار بالمجتمعات التي تتطلع دوما إلى الفضيلة, وحكم الفضيلة عليه حكم المجاهر بالفحشاء... لا يجب أن يتسامح معه أحد. لأنه يلوث عقولا ويهيج نفوسا متعبة تحتاج إلى مهدئات بدلا من المنبهات.

عادة ما لا ينجح أمثال هؤلاء بين طبقات المجتمع النظيف والراقي ولا في أوساط المجتمع المحافظ والبسيط, إنما يستوردون نجاحهم أو شهرتهم المبنية أساسا على دمار القيم المهجورة لدى ثقافة العري مما يروج له فيما وراء البحار, متبجحين بلمعان التفتح ومحفزات التنصل من المرجعيات الأخلاقية والاجتماعية التي ظل أجدادنا لمئات القرون يحافظون عليها... بالمقابل طبعا, ستوصم إن حافظت على نظافة قلمك الشرقي جدا وشرف رسالتك الأدبية جدا و الرامية لنشر المزيد من الحب الرصين والفضيلة الأصيلة... بأنك رجعي حينا أو أصولي حينا آخر, أو بأنك سجين التراث وأسير التخلف وحبيس المخطوطات المنسية.. يجب –كي تنجح- أن تلبس كتاباتك أثواب الموضة فتقبل بالفساتين العارية وتدافع عن بائعات الهوى وتنصر الشواذ وتقدم إعلانا مجانيا للخمر والمراقص وبيوت العار وتتفنن في وصف لذات الغزل, عليك أيضا أن تذكر بجرأة في بعض صفحاتك شرحا مسهبا لشكل الخيانة الزوجية وليس لأسبابها, وتلميعا لتفاصيل الزواج العرفي بمقدماته وليس بخواتمه, وأن تبرع في استخلاص دوافع العزوف عن التمسك بالإسلام الشامل طالما يوجد من المسلمين من يميل إلى التشدد و الغلو أو التطرف... حينها فقط ستفتح لك قنوات التلفزيون ويستقبلونك في المطار بباقات الورود ويهنئك الرئيس في كل عيد ويلصق اسمك على حائط النجوم وتقام لك الندوات وتنشر لك الفعاليات على ركح المسارح وأعمدة الجرائد والمجلات ثم تتحصل في الختام على جائزة نوبل للآداب...

قد تشمون رائحة القسوة بين حروفي, مؤكد ذلك... لأنني يجب أن أكون كذلك... لا بد أن أكون قاسيا, لأنها الغيرة على الأدب صدقوني.. هي الحسرة على ضياع الفضيلة ... لست بحاقد على احد ولا اعني أحدا من الكتاب, أنا لا أقصد شخصا ما وإنما أعني الشنيع من المواقف والكلمات.. ربما لا علاقة لي بالكتابة فأنا لا اعتبر نفسي كاتبا وإن قيل عني أني كذلك. وان أحببت أن أكون كذلك واستطعت, فإنني لا أود إلا أن أحترف مهنة الأدب وليس غواية الكتابة.. إن كل ما في الأمر أنني امتلكت هبة من الله تجعل أصابعي تحيك بطلاقة هذه الحروف التي تنبع من وجداني الخفي.. لقد خلقني الله ومنحني كل هذه النعم بما فيها عيونكم التي تقرأ بعضا من همومي وهواجسي.. فكيف أفصل ذاتي ووجداني عن بارئه وهو الذي يحبني أن أكون الإنسان الذي يهزم الشيطان لا الإنسان الذي يحالفه...

قد يجد الكثيرون حججا لتبرير حروف الإغراء والمتعة والإثارة.. قد يقولون كل ما يحفظ ماء وجوههم أمام الناقدين القساة أو المحللين الرجعيين على حد قول البعض.. لكنهم لن يستطيعوا البتة إقناع القاريء الشريف والنبيل أن ما يكتبونه على صفائحهم بوح وجدانيُُ متأصل ينشر الفضيلة ويدعو إلى السلام والإسلام "دين الكون" ويوثق الأواصر بين الأرض والسماء, وبين الروح والجسد, بين البشر وبين الله... ألم يخلقنا الله لنكون له ونؤول إليه..

كم نحن إلى روح الأدب... ذاك هو الأدب, وذلك هو الرافعي والمعري والعقاد, وذاك هو جبران وابن المقفع وسيد قطب.. هم أولئك الأدباء, من يجعلونك ترتبط حقا بوجدانك الصفي وتعود إلى روحانيتك وجذورك السماوية.. لأنك حتما من السماء نزلت وما فارقت الجنة إلا لتكتشف عبقها وأنت مسلسل بتراب الأرض, فتتوق إليها وإلى اعتناق حضنها بما تكابده من صبر على أهواء نفسك ومن كفاح لأجل صون الفضيلة في ضميرك والأدب والأخلاق.. مترفعا عن دنايا الخطيئة على لذتها وعن بشاعة المتعة وعن أثرها المريع... فهي بحق –أي الخطيئة- منبوذة فطريا وأسريا واجتماعيا.. فكيف تستعطيها بعض الأقلام التي تدعي الأدب وتتلذذ بها عيون تدعي أنها تجيد القراءة وتحظى بغوغاء الشهرة والنقد وهي التي إن حضت بجودة الصياغة والتركيب , تعرت من قيمة الأدب وسلطان الفضيلة..

يجب أن يكون النقد أدبيا محضا, أدبيا بمعنى الفضيلة, لا كتابيا بمعنى الصورة أو الرسم وحسب.. وما تلوث بعضه سكنته الشبهات وطلقته المصداقية الواجبة لمن يفترض به أن يكون مربيا ومصلحا ومنتجا ومرشدا وطبيبا روحيا لكل قراءه ومحبيه.. إنه الأديب.. هكذا كان, وهكذا يجب أن يكون ولا ريب...

سأختم كلماتي هذه باعتراف جميل لأجمل أديب سحرت بخياله منذ الطفولة, إنه "جبران خليل جبران" ومن منكم من لم يقرأ لجبران.. جبران الذي قال "أنا رب نفسي" فأنكر الديانات كلها, جبران الذي لا فرق عنده بين الخير والشر كما لا يفرق بين الكفر والإيمان, جبران الذي أنكر كل الشرائع والنواميس, جبران الذي اتبع دين الأهواء ومذهب التقمص يستيقظ قبل أن يقتنصه داء السل فيفتك به ليقول بحرقة الأديب المتأصل الجميل: " لقد نحرتَ حبك على مذبح شهوتك يا جبران... أنت مصاب بداء الكلام يا جبران. ولأنك تخجل من كل ما فيك من ضعف بشري تعكف عليه فتستره بحلة من الكلام الجميل والألوان البهجة. والكلام الجميل لا يرفع الشناعة إلى مستوى الجمال. والألوان البهجة لا تصبغ الضعف قوة. وقولك أن الحب هو الله لا يجعل الشهوة الجسدية إلها ولا اللذة الحيوانية ناموس الحياة".

لقد استيقظ جبران متأخرا, وجسد فيه عمق الحكمة التي تقول: نحن نكبر لنتعلم وحين نشعر أننا تعلمنا نجد أنه لم يبق في العمر بقية.. هل يحتاج كتابنا الصغار كل الوقت الذي استغرقه جبران الكبير ليصبحوا مثله "أدباء" كبار؟؟؟

-----
بقلم سليم مكي سليم - الجزائر - 01/07/2008

No comments:

Post a Comment