مبحر على عتبات الحرف

دعني أنــام .........

ظل محمود يصارع الأرق لساعات وساعات ... قام من تقلّبه الضجـر على سرير يلوك شـوكا والهمّ ، يضغـط رأسـه بكلتا يديه: أشياء في دماغي تتضارب.. تقصف جمجمتـي من الداخل.. تلسع جفوني محاولـة الخروج, تضربني ضربا, أفتح عيوني, تضحك عليْ ثم تعود جريا من حيث أتت في أعماقي, تصفع غفوتي دون أن تهرب، أحس رأسي ستنفجـر... أضغـط وأضغـط بيدي, علّي أهديءُ من حدّة الضغط لكن ... أريد أن أنام.. ما لعيوني حائرة؟.. مقلتاي غائرتان إلى الداخل أو ربمـا جاحظتـان إلى الخارج لسـت أدري ... المهـم أنهمـا ليستـا في مكانهمـا الطبيعـي:
ـ لا أريد أن أرى شيئا.. لا أريد أن أتذكر شيئا.. لا أريد التفكير بشيء.. تبا لك من ذكريـات لعينـة ... كم كرهـت الماضي بكرهك.. غادريني ... لا أطيقك ...
ـ لكن الماضي من أقدار الله، أو تكره الله ؟
ـ أعوذ بالله من أن أكره الله ... إنما أكره من الماضي بشرا لا يخافون الله .
ـ لكنهـم من خلق الله.
ـ لكن الله لم يخلق البشر كي يخافوه أو لكي يكفروا به أو يدوسوا أمثالهم من العباد ...
- كفّ عني ألاعيبك المكشوفة ولا ترميني بتساؤلات في متاهـة القضاء والقدر ...
ـ لكن لابد من أن نفهم موقعنا من القضاء والقدر.
ـ قبل أن نفهم موقعنا هناك، علينا أن نفهم جيدا ما القضاء والقدر.
ـ وما المانع ؟ ... لنفهـم ذلك معا .
ـ كلاّ ، ليس الآن ، ليس الآن ... دعني أنام... أرجوك دعني أنام.

وارتمـى محمود على وسادتـه... يلف بها رأسه.. لكنّ أصداءا في رأسه لا تزال تطارده:
ـ تحرجني حين تقول أرجـوك، البشر في هذه الأيام صاروا لا يجيدون إلا الأمر والنهـي.
ـ وكأنك تريد منعي من أن أنام... ما قصدك ؟
ـ لا بأس ... سأتركك هذه الليلـة لتنام ... لكن ...
قبل أن يكمـل جملته, انتفض محمود ضجـرا :
ـ لكن ماذا؟ ... أتريد أن أصرخ فيك " دعنـي أنام "
وإذ ذاك دوّى آذان الفجـر معلنا وقت الصلاة للعباد الأوفياء لصلاتهـم، حيث يغشى العالم المظلـم سكون روحاني يملأ الآفاق, يرصع السلام السمـاء الطاهرة... مسـح محمود على وجهه بقبضتيه ثم أستغـفر ربّه وقال :
ـ هل ارتحت الآن، ها قد أذنّ الفجر، تعال ونم مكاني سأهديك وسادتي دون أن ترجوني ... سلام على النوم وسلام حتى على الكلام... شكرا محمود لثالث ليلة تحرمني المنام.

تأفف محمود ضجرا, وقام يمشي كمن يريـد خلع عقله من رأسه ليضعـه تحت الوسادة ثم يذهـب دونه إلى الصلاة بلا هم منه يصيبه أو تفكيـر يعتليه ... لكنّ الصلاة لا تجوز بدون عقل ولابد للمرء من اصطحابـه معه في كل وقـت وفي كل مكـان... لأجل هذا ابتسم محمود وهو يتوضأ.. لقد نسي تماما معاناته مع المخدة ومأساته مع المنام.

قاصدا مسجد الحارة, خرج محمود مبهورا بروعـة السماء عند باحة الفجر, متقلبا بصره بين بسمات النجوم الربانيـة, شاردا في هناءة الأنسام المنعشـة: ... يا الله ، إن وقفـة كهذه, تحت سمـاء وادعـة بديعـة لأفضل عندي من عشرات الساعات على وسادتي المريعة، ما أجمل الكون بلا بشـر ... ستكون هذه الأرض الفاتنـة جنّة ساحـرة لو أعدم كل من عليهـا من البشـر ... لقد حوّلوها إلى جحيـم ... إلى جهنـم، لقد أحالوا فردوسها إلى لجّة لعينـة يحكمها الجهلـة والمفـسدون ... أهكذا نحيا الحياة بغبائنا، أهكذا نعشق الدنيا باحتيالنـا... لم لا يقـوم الناس إلى الصـلاة في مثل هذا الوقت؟ والصدور مليئـة بسكينة فجريـة, لذيذة وعذبـة.. وكأن الدنيا غير الدنيا والزمـان غير الزمان ... والله إن صبحا بين أحضان الدنيا لأجمل عندي من ألف يـوم لا أرى فيه غير المتعطشيـن بأناهم للشر مثل الذئاب ... ما أجهل عبادك يا إلهي ... ليتـهم يتسارعـون الآن إلى الصلاة كما يتضاربون نهارا على التشدق بأرذل صنوف اللغو والقذف والسباب...


فجأة, تجمد في أعصابه ماء الكلام.. وقف محمود ملتصقا بالجـدار، ارتجفت أوصاله لهمس أمّ تبكي فتاها الذي يرغمهـا على الصمت لكنها لا تستطيـع ، كان شعيب منتصبا يصيـح بصوت غاضب متخفِِ ومخنوق: هيا أسرع يا رشيـد ...
أما رشيـد ، فقد وقف شاحبا على رأس أمّه, كانت تمسك بطرف ردائـه, مرتمية عند قدميه تستجديه بعويلهـا المكتـوم:
ـ رشيد.. رشيد لا تذهب.. أرجوك ولدي لا تذهـب ... لمن تترك الأرمل وحيـدة، أم تريدها ثكلـى جديدة ... رشيد لا تتركنا .. رشيد...
شعيـب ينتفض غيـظا ولا يطيـق منظرا كهذا ... تقدم هائجا وانقـض على رشيد, قطب حاجبيه وقال مختطفـا الحقيبـة من يـده:
ـ تريـد الذهاب أم ماذا ؟.
ـ حسنـا ...
قبَل رشيد رأس أمه متمتما.. سحب رجليه من بين يديها وتبـع شعيبـا هرولـة كما يتبع الصوص الصغيـر ديكا يركض كما الحمير ... مدّت الأم رجليها, أنهكها البكاء.. تريد لطم فخديها بكل قوّة, لكنها لا تستطيع، عضت شفتيهـا والدمع يغسل وجهها مثل شلال غزير، تريد أن ترفع صوتها لكنها تخشى شيئا ما، تريد النواح كما الثكالى لكنهـا لا تجرأ على العويل.. قلبهـا حتما سينفجـر وصغيريها بعد في نومهما العميق ترفع رأسها إلى النافدة ، تفكّر فيهمـا، ماذا ستقول لهما عند الصباح لو سألاها :
ـ أين يا أم، أخانا رشيـد ؟

وقفَت ... وعندما لم تقوَ ركبتاهـا المرتجفتان على حملهـا ، وقعـتْ. هرع محمود جريا، ضمّهـا إليه، لم ترفع رأسها إليه, لكنها حين لامسته ألقت بثقلها على صدره تبكي كما الأطفال الصغار :
ـ لقد أرغمـه على الصعود إلى الجبل، أنت تعرف رشيد، يا ولدي ... إنه مثل حمل وديـع ... محمود.. من سيلحق بولدي.. من سيعيده لي, أين ذهبت يا رشيد؟
فاضت الأم بملء فيها, دموعها حرف الكلام.. أجهشت حين لم تستطع مقاومة الوجع ورثت بالصمت قرة عينها و بالوجع وبالعتاب وبالملام.. رشيد أكبر أبنائها الثلاث، هو الرجل الكبير, وهو الأمل المريح, ذلك الذي عوّلت طويلا على الاحتماء به بعد وفاة زوجهـا الضرير، كيف ستربي لوحدها يتيميـن بعمر البراعم لم يعرفا بعد في هذه الدنيا غير أمهما وكأس الحليب ونجلها رشيـد... لمن ستلجأ حين تشرق الشمس ويهرب الظلام؟ بمَ قد تجيب الناس إذا سألوها؟ أين رشيد؟ كيف سيقبل الجيران الموقـف، كيف ستعيشـه الحارة هذا الصبـاح ؟...


سليم مكي سليم
وصفحة من رواية ليست للنشر

4 comments:

  1. Anonymous1/8/08 12:04

    روعة ما تكتب تكمن في التفاصيل المعبرة
    تحياتي

    ReplyDelete
  2. قد تكون التفاصيل مهمة في كثير من الأحيان أخت ميرفت
    لكنها قد تكون مملة أيضا في بعض الأحيان
    ومؤلمة أيضا
    ...

    سليم

    ReplyDelete
  3. Anonymous1/8/08 12:07

    لماذا هي ليست للنشر صديقي ؟
    هذه الصفحة قصتان في قصة واحدة
    شيء مختلف
    شكرا على الذي قلته في حقي
    و شكرا على هذا النص


    صديقك
    خالد

    ReplyDelete
  4. مأساة الكتابة
    le 7/31/2008

    ليس كل ما يُكتب صالح للنشر أخي خالد
    أنت أدرى
    ربما لكونه لا يرقى إلى مستوى الكتابة المحترفة
    ربما لأنه نشأ منقوص الرعاية بعد الولادة العسيرة فترسخ سباته في المهد دون تنظيف ..بلا حماية ..لا يضمه إليه أي حضن .. لا ترافقه أي بسمة.. لا ينعم بأي بدفء

    ربما والأهم من ذلك كله أن يخبأ كما يخبؤ السر.. فيُنسى ويضمحل إذا كان الكاتب ممن يحتفظ بمسوداته لعشرات السنين, يزورها كل سنة مرة, يمسح عنها الغبار, يقبل حروفها التي تعني له الكثير..له وحده وحده وفقط
    فهو الذي كتبها في البدء بنية ألا يقرأها أحد
    لست أدري لماذا نكتب لوحدنا ..ثم لا نستطيع أن نقاوم رغبتنا في ان يقرأ لنا الذين نحبهم ذات يوم..دون ان يهمنا أن يقرأ لنا الكل

    ألم أقل لك إن عالم الكتابة متاهة من المتناقضات..

    دمت بخير
    سليم

    ReplyDelete