مبحر على عتبات الحرف

ظـل امـــرأة: الدراما السورية تبحث عن الإنسان

................

كتب الأخ الدكتور أنور عبيدين عن قراءته للمسلسل السوري "ظل امرأة" مقالا جميلا في مدونته الجميلة
أعقبت عليه بردي التالي

لست من هواة التلفزيون لكنني أشد بسرعة إلى العمل الذي يستحق جلسة المشاهد كإنسان.. ربما أكثر لأنه يدغدغ شرارات الشجن الذي يملأ كل جسد يعترف بأنه مجرد روح تسافر فوق بحار المشاعر الأبدية... الدراما السورية تستحق الثناء عليها لسبب بسيط أنها تعتنق الصدق كدين وتبتعد عن التكلف والتصنع وفلسفة فرض القصص التي يشوبها البهرجة والخيال فقط لإصدار عمل هو فاشل منذ البدء لأنه مجرد صفقة تجارية محضة ... وائل ووفاء سوريان .. أنا جزائري ولم أشاهد لحد الان سوى حلقتين على قناة قطرية .. يعني كلنا في عالم واحد ..بلغة واحدة .. بقلب واحد .. إنما تختلف الدروب والأمكنة ليس إلا ... متى يترفع العرب عن ترسيخ اتفاقيات سايكس وبيكو بتلوين ما وضعوه بيننا من حدود وأسيجة وجنسيات وهمية ... أرفع تحيتي للموسيقار رضوان نصري, لكل فريق المسلسل, ولك دكتور أنور لأنني لم أجد في الشبكة كلها قراءة أجمل من قراءتك لهذا العمل كتجربة انسانية ترى بألف منظور ويتوه السطحيون معها في شراك السطحية ... المؤلف لم يقم إلا برسم تفاصيل ما قد يحدث لكل إنسان والمخرج لم يقم إلا بترجمة التفاصيل بحبكة درامية غاية في الذكاء العاطفي الذي يحيي مشاعر الألم والتعاطف والحسرة في عمق كل نفس بشرية ........

ربما لأنني أعشق الشجن شددت إلى هذه القصة .. ربما أيضا لكوني أعشق الروح الشامية .. ربما أكثر لأن الدموع المتحجرة تملأ نفسي وتحب أن ترى فخرها على جفون الممثلين الزائفة ... إنهم يمثلون .. قد نقول إنهم يسخرون منا .. فيبكي البعض ويغضب البعض ويحتقر البعض ويستنكر البعض ... إنهم أذكياء .. على قدر تفاعلك وعلى قدر قراءتك تكون أنت ... لا يهم من الأصح ومن الخطأ في تلك التفاصيل .. المهم أنت كمشاهد .. هل كنت تضمن أن تسلك التصرف الأصح لو كنت في قلب الأحداث ... لن أحكم على أحد من كل الذين علقوا .. سأحكم على نفسي ... أخطاء الكل لا تنفي الحب .. لا أنانية وائل ولا انهزامية وفاء تنفي حبهما للآخر أو تقلل من قوته... لم أكمل بعد رؤية ما تبقى من مشاهد لكنني أشعر بأن كل الفكرة وصلتني من مجرد رؤيتي لبعض المشاهد التي عن حق هي من أشد المشاهد تأثيرا في الدراما العربية ... في ظل الانكسار الشامل الذي ساد علاقتهما ..في عز غضب الانفصال وتحطم كل شيء .. يأتي وائل ..يجلس على السلالم باكيا .. تخرج وفاء وفي يدها الحقيبة .. تراه هناك لم تنتفض .. تجلس إلى جانبه .. تصمت برفق .. يبوح لها بدمعه الحارق أن لا حياة له بدونها .. أي أنانية هنا .. هو يترفع عن ذاتيته كلها .. إنه الحب الصارخ الذي لا يموت .. أين بشاعتها هنا وهي تبكيه بألم .. يسقط وائل .. تصرخ خوفا عليه ..يطلب منها ألا تفعل شيئا لم يعد بحاجة إلى مساعدة أحد .. هو هكذا .. تركيبته هكذا.. هي تعرف ذلك فهو زوجها وحفظته .. لن تستطيع مساعدته .. لا تتحمل دورا ثانويا إلى جانبه .. إنه كبرياء الحب الذي لا يجوز أن يكون من طرف واحد وبجناح واحد .. إما كل شيء وإما لا شيء ........

يعرف وائل أنه لم يعد قادرا على أن يكمل دور عطاءه المطلق... أصبح ضريرا .. لم يعد يراها كما تراه .. هويتلذذ بتعذيب نفسه لأنه لم يعد ذات الرجل الذي يأخذها من ذراعيها ويطير ... لم يعد يثق بنفسه كما كان .. لحظة انكسار تحتله ولا يستطيع الفرار منها ... هو لا يتحمل نفسه ..هي تحترق لألمه .. لا تحتمل رؤياه يتعذب ... كما لا تستطيع البقاء إلى جنبه منطويا على حزنه الأزلي .. تمقت أن تراه ضعيفا وعنها بعيدا.. تريد أن تعاقبه أكثر .. إنه يعشق الحزن .. يحيا به ... كلاهما يهرب من نشوة الحب إلى شجن الحب ... الحب في كليهما لا يموت .. لم يمت .. لن يموت ........

من يتحمل أكثر .. لا بد أن يتحمل .. لا بد أن تتحمل الآخر ..لأنك فيه وبه تتحمل نفسك .. هو ليس آخر ..هو أنت فيك يسكن وتسكن فيه ..بك ولك يفرح ومن أجلك يضعف ويحزن ... لا أرى في القصة مخطيء ومحق .. أرى تعبا حقيقيا يلم بالقلوب حين تعجز عن اسعاد بعضها البعض.. هو لا يصبح بامكانها أن تعطي أكثر للآخر ...قصة وائل ووفاء .. تمثل قمة النبل في الحب ..قمة الشعور بالعذاب من أجل الاخر ... لا حب بلا ألم .. لا حب بلا شجن ... لا حب بلا نشوة .. لا حب بلا تعب ... لست أعرف بقية القصة .. لكنني تمنيت لو أن الحب دوما ينتصر .. لأن السقوط أمام هواه الكبير انتصار ... يجعلك أنت كله هو ويكون هو كلك أنت ...
نفرح بالحب .. وحين يؤلمنا نرحل ... لا يجوز الرحيل حين يجرحك الحب.. لماذا لا نقبل بكل تبعاته حتى الشعور بالوحدة فيه وبالضعف وبالعجز وبالألم... كم أعجبني مشهد الجلوس على الدرج ... كانت من أجمل لحظات الاعتراف بالحب حتى حين تراءى للكل أن الحب مات ويحتضر ... غضب الحب في كليهما ثائر ..فائر .. إنها فترة ثوران .. بركان ولا بد أن ينفجر .. هل سينبثقان بعده كبراعم تنشد نور السماء من تحت الرماد .. هل سيحضنهما الفرح مجددا بعد هدوء العاصفة أم سيلفها جماد الموت وتحجر النسيان .. متى يؤمن المحبون جميعا أن الحياة لا بد أن تستمر .. نهار وليل .. نور وظلام .. فرح وحزن .. دمع وابتسام ...........

تلك كلمة القدر ... هل نسيت يا ابن آدم أنك مجرد إنسان وأنك لا تصنع دائما كل شيء .. بل هناك أيضا من يصنعك .. ما يصنعك ........
تحية لكل إنسان يتغلب عن ذاته فقط ليسعد الآخر ....

سليم مكي سليم ... مع كل الحب
وتتوالي الردود

الكاتب ومدرسة الأديب .........

موضوع الحوار: أرق و صورة
للكاتب: خالد - منتديات أحلام مستغانمي

كتبت فيما كتبت تعليقا على جمال الصورة أن الأسلوب الجميل لدى أديب ما لا يتكرر عند كاتب آخر
وعن تصويره للأرق قلت: ما أكثر المتناقضات في عالم الكتابة
تصدق الشيء فقط لتكتبه
ثم تكتبه كاذبا ليصدقه الجميع أثناء القراءة
حتى وان ارتأى أن يكذبه بعدها
الحلم يصبح حقيقة وتستحيل الحقيقة بعده إلى مثاليات
تجعل من الأرق حياة كاملة وتجعل الحياة برمتها جرعة نوم
تركد في النهار وتقفز في باحة الليل
يصيبك العمى في غمرة الشمس وتبصر جيدا في الظلام
...
قد لا أوافق السيدة أحلام .. أنت فعلا كاتب رائع
لكنك لا تكرر أحدا
ولا تشبه احدا.. ولن يشبهك أحد
أنت خالد .. وكفى


فهل كنت كما قالت تكررها؟
حول هذه القصة كانت مداخلاتنا اللطيفة عن المدرسة في الكتابة...

لمست في المعنى وكانه -خالد- يكررها..وهذا الذي اكتشفته أنتِ -كقارئة- مع كل صعقة جديدة
أتقبل قراءتك بتفتح
لكن هذا لا يمنع من اظل مصرا على أن كل كاتب حقيقي -وأؤكد حقيقي- يكتب نفسه ويصوغ وجدانه بأسلوبه المتحرر المستقل مما يكفل له الخروج في نهاية مشواره مع الكلمات بمدرسته الخاصة

السيدة أحلام "مدرسة" حقا.. تمثلها هي وفقط , طلبتها هم قراءها, مقرراتها هي كتاباتها ورواياتها, سمعتها هي رسالتها الفكرية والروحية, أما أن يولد من جيل الكتاب الجدد من يقلدونها في الصياغة او من يأخذون عنها مسار البوح والسرد والرسم شيء لا أراه مشرفا لا للأدب ولا لمدرستها الجميلة..
لا أعرف أحدا من خريجي مدرسة نزار قباني ولا سهيل ادريس ولا جبران ولا الرافعي ولا حتى محمود درويش أو غسان كنفاني.. لكل منهم مدرسته الخاصة لكن أحدا منهم لم يخرج كاتبا جديدا يحمل بصمته الكاملة أو حتى يكمل ما بدأه ولم يكتمل...

لا أريد الخوض في فلسفة المدارس الأدبية فهي ليست من اختصاصي ..لكن أؤكد حسب فهمي أن المدرسة -بعيدا عن المدارس الفنية أو الايديولوجية الكبرى- هي مدرسة في الأسلوب وحنكة في الصياغة وهي ملكة ربانية مغروسة في جينات الكاتب لوحده وأبدا لا تصدر ولا تورث... لن يحدث لأسلوب أن يستنسخ وان حدث فهو من صنيع السرقة أو المحاكاة أو التثليد وب لن يعتبر البتة ابداعا ولن يقدم جديدا...

وحتى تبقى "مدرسة أحلام" فريدة من نوعها برأيي لا يجب أن يتمكن من تقليدها أحد لأنها لم تقلد أي أحد رغم كل ما قيل عنها في بدايات ابداعها.. وألا يحاول مغازلتها بالمحاكاة أحد...
على الكاتب الذي يتأثر بمدرستها وفلسفتها في الكتابة ان يبدا من حيث توقفت هي أو ان ينطلق من حيث هي وصلت ولم تستطع أن تتقدم.. مؤكد ان المبدعة الفريدة نجحت..لكنها أيضا تعثرت في كثير من محطاتها ..أحيانا بسبب غيرة البعض أو بسبب حقد البعض الآخر.. بسبب ظروفها الحياتية الخاصة, بسبب غربتها, بسبب الكثير من العوامل الاخرى التي جعلت عطاءها الكبير محصورا في أذهان الكل بثلاث روايات عملاقة تكفيها في الواقع للحصول على المجد وخلود الاسم المبدع... لكن مدرسة احلام برأيي لم تكتمل ذروة عطاءاتها بعد لتنجب كُتابا بحجمها وعمقها..
ننتظر "الأسود يليق بك".. أشعر بانها ستكون أكثر تميزا من توائمها الثلاثة... أشعر أيضا بأنها ستضيف الجديد إلى مدرسة احلام.. تمنيت لو سحرت بحروفها بالقدر الكافي لأفتح احدى رواياتها مجددا فاقرأها عشرة مرات اخرى... مؤكد انني هذه المرة سأقرأ المولود الجديد عدة مرات لسبب واحد
أنني أحب الأسود فعلا كأجمل لون اختاره غالبا لملابسي لأثاثي لاكسسواراتي لخلفيات لوحاتي...
..

لم أحب أحلام لأنها جزائرية.. ولا لأنها أصبحت اسما على علم ولا لأني انبهرت بما قرأته لها, فقد انبهرت قبلها بالكثيرين.. أحببتها لأنها امراة قوية فعلا, فرضت جودة ذاتها في سوق الغيلان.. لا أعرفها لكنني قرات عنها الكثير, واكتشفت من سيرتها كم عانت لتصل إلى ما وصلت إليه. وما كانت لتصل لو لم تكن نقية الباطن ..بيضاء السريرة.. مليئة بالحب.. للقلب العربي..بالغيرة على البيت العربي.. معبِئة للروح العربية..بالأصالة العربية
صدقا أتشرف بان أرش على صفحات منتداها -بعضا من زخات قلمي الصغير- وأن أتمنى أن يرتقي منتداها إلى الريادة الحقيقية التي تمكنها فعلا من انشاء مدرسة تربي وتنمي الذوق وتكتشف الملكات الأدبية الخلاقة والتي حتما تشرف رسالتها كواحدة من أرقى وأنبل المثقفات العربيات اللواتي يصنعن المجتمع ويحفظن نبالة الغد لأجياله القادمة..

مم لا شك فيه أن أحلام لا تكتب لنفسها بقدر ما تكتب للغير... لكنها احتفظت ببصمتها وبصمتها لم تصدر للغير

فهل جاء خالد ليكررها؟

تابع الحوار كاملا في الرد

مراكب سكرية للحب.........

..................

دعني أنــام .........

ظل محمود يصارع الأرق لساعات وساعات ... قام من تقلّبه الضجـر على سرير يلوك شـوكا والهمّ ، يضغـط رأسـه بكلتا يديه: أشياء في دماغي تتضارب.. تقصف جمجمتـي من الداخل.. تلسع جفوني محاولـة الخروج, تضربني ضربا, أفتح عيوني, تضحك عليْ ثم تعود جريا من حيث أتت في أعماقي, تصفع غفوتي دون أن تهرب، أحس رأسي ستنفجـر... أضغـط وأضغـط بيدي, علّي أهديءُ من حدّة الضغط لكن ... أريد أن أنام.. ما لعيوني حائرة؟.. مقلتاي غائرتان إلى الداخل أو ربمـا جاحظتـان إلى الخارج لسـت أدري ... المهـم أنهمـا ليستـا في مكانهمـا الطبيعـي:
ـ لا أريد أن أرى شيئا.. لا أريد أن أتذكر شيئا.. لا أريد التفكير بشيء.. تبا لك من ذكريـات لعينـة ... كم كرهـت الماضي بكرهك.. غادريني ... لا أطيقك ...
ـ لكن الماضي من أقدار الله، أو تكره الله ؟
ـ أعوذ بالله من أن أكره الله ... إنما أكره من الماضي بشرا لا يخافون الله .
ـ لكنهـم من خلق الله.
ـ لكن الله لم يخلق البشر كي يخافوه أو لكي يكفروا به أو يدوسوا أمثالهم من العباد ...
- كفّ عني ألاعيبك المكشوفة ولا ترميني بتساؤلات في متاهـة القضاء والقدر ...
ـ لكن لابد من أن نفهم موقعنا من القضاء والقدر.
ـ قبل أن نفهم موقعنا هناك، علينا أن نفهم جيدا ما القضاء والقدر.
ـ وما المانع ؟ ... لنفهـم ذلك معا .
ـ كلاّ ، ليس الآن ، ليس الآن ... دعني أنام... أرجوك دعني أنام.

وارتمـى محمود على وسادتـه... يلف بها رأسه.. لكنّ أصداءا في رأسه لا تزال تطارده:
ـ تحرجني حين تقول أرجـوك، البشر في هذه الأيام صاروا لا يجيدون إلا الأمر والنهـي.
ـ وكأنك تريد منعي من أن أنام... ما قصدك ؟
ـ لا بأس ... سأتركك هذه الليلـة لتنام ... لكن ...
قبل أن يكمـل جملته, انتفض محمود ضجـرا :
ـ لكن ماذا؟ ... أتريد أن أصرخ فيك " دعنـي أنام "
وإذ ذاك دوّى آذان الفجـر معلنا وقت الصلاة للعباد الأوفياء لصلاتهـم، حيث يغشى العالم المظلـم سكون روحاني يملأ الآفاق, يرصع السلام السمـاء الطاهرة... مسـح محمود على وجهه بقبضتيه ثم أستغـفر ربّه وقال :
ـ هل ارتحت الآن، ها قد أذنّ الفجر، تعال ونم مكاني سأهديك وسادتي دون أن ترجوني ... سلام على النوم وسلام حتى على الكلام... شكرا محمود لثالث ليلة تحرمني المنام.

تأفف محمود ضجرا, وقام يمشي كمن يريـد خلع عقله من رأسه ليضعـه تحت الوسادة ثم يذهـب دونه إلى الصلاة بلا هم منه يصيبه أو تفكيـر يعتليه ... لكنّ الصلاة لا تجوز بدون عقل ولابد للمرء من اصطحابـه معه في كل وقـت وفي كل مكـان... لأجل هذا ابتسم محمود وهو يتوضأ.. لقد نسي تماما معاناته مع المخدة ومأساته مع المنام.

قاصدا مسجد الحارة, خرج محمود مبهورا بروعـة السماء عند باحة الفجر, متقلبا بصره بين بسمات النجوم الربانيـة, شاردا في هناءة الأنسام المنعشـة: ... يا الله ، إن وقفـة كهذه, تحت سمـاء وادعـة بديعـة لأفضل عندي من عشرات الساعات على وسادتي المريعة، ما أجمل الكون بلا بشـر ... ستكون هذه الأرض الفاتنـة جنّة ساحـرة لو أعدم كل من عليهـا من البشـر ... لقد حوّلوها إلى جحيـم ... إلى جهنـم، لقد أحالوا فردوسها إلى لجّة لعينـة يحكمها الجهلـة والمفـسدون ... أهكذا نحيا الحياة بغبائنا، أهكذا نعشق الدنيا باحتيالنـا... لم لا يقـوم الناس إلى الصـلاة في مثل هذا الوقت؟ والصدور مليئـة بسكينة فجريـة, لذيذة وعذبـة.. وكأن الدنيا غير الدنيا والزمـان غير الزمان ... والله إن صبحا بين أحضان الدنيا لأجمل عندي من ألف يـوم لا أرى فيه غير المتعطشيـن بأناهم للشر مثل الذئاب ... ما أجهل عبادك يا إلهي ... ليتـهم يتسارعـون الآن إلى الصلاة كما يتضاربون نهارا على التشدق بأرذل صنوف اللغو والقذف والسباب...


فجأة, تجمد في أعصابه ماء الكلام.. وقف محمود ملتصقا بالجـدار، ارتجفت أوصاله لهمس أمّ تبكي فتاها الذي يرغمهـا على الصمت لكنها لا تستطيـع ، كان شعيب منتصبا يصيـح بصوت غاضب متخفِِ ومخنوق: هيا أسرع يا رشيـد ...
أما رشيـد ، فقد وقف شاحبا على رأس أمّه, كانت تمسك بطرف ردائـه, مرتمية عند قدميه تستجديه بعويلهـا المكتـوم:
ـ رشيد.. رشيد لا تذهب.. أرجوك ولدي لا تذهـب ... لمن تترك الأرمل وحيـدة، أم تريدها ثكلـى جديدة ... رشيد لا تتركنا .. رشيد...
شعيـب ينتفض غيـظا ولا يطيـق منظرا كهذا ... تقدم هائجا وانقـض على رشيد, قطب حاجبيه وقال مختطفـا الحقيبـة من يـده:
ـ تريـد الذهاب أم ماذا ؟.
ـ حسنـا ...
قبَل رشيد رأس أمه متمتما.. سحب رجليه من بين يديها وتبـع شعيبـا هرولـة كما يتبع الصوص الصغيـر ديكا يركض كما الحمير ... مدّت الأم رجليها, أنهكها البكاء.. تريد لطم فخديها بكل قوّة, لكنها لا تستطيع، عضت شفتيهـا والدمع يغسل وجهها مثل شلال غزير، تريد أن ترفع صوتها لكنها تخشى شيئا ما، تريد النواح كما الثكالى لكنهـا لا تجرأ على العويل.. قلبهـا حتما سينفجـر وصغيريها بعد في نومهما العميق ترفع رأسها إلى النافدة ، تفكّر فيهمـا، ماذا ستقول لهما عند الصباح لو سألاها :
ـ أين يا أم، أخانا رشيـد ؟

وقفَت ... وعندما لم تقوَ ركبتاهـا المرتجفتان على حملهـا ، وقعـتْ. هرع محمود جريا، ضمّهـا إليه، لم ترفع رأسها إليه, لكنها حين لامسته ألقت بثقلها على صدره تبكي كما الأطفال الصغار :
ـ لقد أرغمـه على الصعود إلى الجبل، أنت تعرف رشيد، يا ولدي ... إنه مثل حمل وديـع ... محمود.. من سيلحق بولدي.. من سيعيده لي, أين ذهبت يا رشيد؟
فاضت الأم بملء فيها, دموعها حرف الكلام.. أجهشت حين لم تستطع مقاومة الوجع ورثت بالصمت قرة عينها و بالوجع وبالعتاب وبالملام.. رشيد أكبر أبنائها الثلاث، هو الرجل الكبير, وهو الأمل المريح, ذلك الذي عوّلت طويلا على الاحتماء به بعد وفاة زوجهـا الضرير، كيف ستربي لوحدها يتيميـن بعمر البراعم لم يعرفا بعد في هذه الدنيا غير أمهما وكأس الحليب ونجلها رشيـد... لمن ستلجأ حين تشرق الشمس ويهرب الظلام؟ بمَ قد تجيب الناس إذا سألوها؟ أين رشيد؟ كيف سيقبل الجيران الموقـف، كيف ستعيشـه الحارة هذا الصبـاح ؟...


سليم مكي سليم
وصفحة من رواية ليست للنشر

الــبـــــرواز المـــهـــــــجــــــــــــــــور ..........


أدخلني غرفته ... جلستُ وطلب مني الإنتظار .... كانت غرفة جميلة جدا .. وأجمل ما فيها لوحات زيتية للبحر, كتب وكثير من باقات الزهور التي كانت منسقة عبر أركانها بامتياز, وكم عجبت للنظافة والنظام رغم أنه يسكن بالبيت وحيدا, وحيدا منذ زمن.. امتدت في ذلك الركن, طاولة معقوفة الأرجل مليحة الشكل واللون ... وزع عليها بضع من البراويز الجميلة ... فيها صور لطفولته الباسمة.. بريئة كانت .. وحائرة نظراتها جدا.. أما هناك وعلى رف مميز جدا, تربع برواز مذهب أنيق تظلله مزهرية كبيرة من ورد مخملي أحمر ... كان البرواز فارغا الا من خلفية سوداء ... حفرت عليه أخاديد القدم, فبان لافتا للنظر أكثر بحجمه المهذب وصمته المكين .........
دخل صديقي ... وكان أول سؤال مني له : لمن هذا البرواز الفارغ ؟.
التفتَ إليه ثم مشى غير مبال لسؤالي : هل نخرج الآن , لقد انتهيت .
- لكنني لم أنته من سؤالي, لم البرواز فارغ ... أين الصورة ؟؟؟.
اختطف كتابا ووقف يتصفحه قرب النافذة : ... إنه لأمي .
صمتت وقد خجلت من نفسي : رحمها الله . لكن لماذا أفرغ من الصورة ؟
- لأنها ماتت ...
وصمت منكسرا حتى حسبت نفسي اغتلت حروفه كلها, أحببته أن يجيب بأي شيء, لذا رجوته:
- أرجوك تكلم , لا تشعرني بأنني أخطأت, لا تحسسني بأني غريب .
لكن صمته ظل ماضيا أطول من كل شيء والكتاب ماثلا بين عينيه فلا ينظر إليه, يقلب صفحاته في غفلة من يديه ثم كلما استفاق لحركتهما تصلب الورق بين الأصابع... شعرت بالألم, قمت إليه وضغطت على ساعده بحنو ثم هممت بالاقتراب من الباب منصرفا دون أن أستأذنه, حين حركت مقبض الباب نطق.. وأخيرا نطق: أرجوك لا تذهب ... كان يخاطبني وعيونه عالقة خلف غمام النافذة
- أنا ما عندي صورة, أنا لم أرها في حياتي قط ...
- المعذرة , فتحت جراحك ...
- لا أبدا , أنت مثل أخي ..
- أولا تعرف عنها شيئا ؟؟.
- ليس أكثر مما روته خالتي دوجة
- من تقصد؟ مربيتك.
- أجل
- ماذا قالت لك عنها ؟؟
التفت الي بنظرة باهتة , تفرس في : - ماذا بك .. عم تفتش ؟؟؟ ...
- عفوا لا أقصد ازعاجك ؟
رمى الكتاب من يده صوب السرير ثم انحنى الى النافذة , وابتسم صوب الأفق البعيد وهو يقول :
قالوا لي كانت بيضاء
مشرقة اشراقة الشمس والبدور
ناعمة نعومة القطن ..
شعرها الليلي طويل طويل طويل
قدها مربوع جميل ..
عيناها كبيرتان .. براقتان كهالة الشمع لا الفانوس.
تغرق فيهما لو انت نظرت
دمعها تشتاق اليه ... وألمها لا حس له
كلامها كهمس الورد ... لا شوك فيها ...لسانها دوما صبور ....
ثم سكت لبضع دقائق حسبته غرق في سحب السماء ... لكنه سرعان ما ارتمى على ظهره فوق السرير,
وضع يديه تحت رأسه فوق المخدة وراح يتأمل السقف بعينين اغرورقتا خفية دون أن أشعر,
قال بصوت متحشرج مغموم وقد احتل الغضب بعض نبراته والألم :
كانت اذا ضربوها لاتشتكي واذا طردوها لا تقاوم ولا تثور ..
عذبوها الى ان مرضت
سمموها ... فقدت عقلها مرتين ثم ماتت على سرير المستشفى قبل أن يصل الدكتور.
قلت منقبضا: من فعل هذا؟. قال دون أن يلتفت الي : غريمة أبي .. ثم صمت ..
أحرقوا كل شيء كان لها ... كل ذكراها
أما أنا .. فقد نفيت الى ما وراء البحور .. حيث لا أزال أبحث عن طيف أمي, هل تفهم الآن لم البرواز مهجور؟؟؟
لم تترك شيئا وراءها ... حتى الصورة لم يبق منها الا هذا الإطار المكسور..
أخذت كل شيء معها .. ولم تترك لي الا الجراح بقلبي وبعض الدفء والكثير من الكسور .
ثم قام منتفضا الى النافذة من جديد يرمق الأفق البحري في شرود : فقط تركت قلبها ..
تخجل دموعه من عيوني, حين رفع رأسه عاليا شفط العبرة تحت جفنيه وما رآني, تعمق بناظره في وجه السماء ثم ابتسم: لا أشعر بأنها انتهت, أشعر بقربها مني, صدقني إنها هنا
أورثتني الجمال كل الجمال في قلبها... أورثتني حبها .. به أرى النور وبه أحيا كل شيء وأميز كل الأمور ..
صورتـُها مرارا بحروفي ..تمنيت لوكنت اعرف رساما يجسد طيفها في لوحة دون السطور
لكن هيهات .. هيهات ان يستطيع
اذ لا يمكن لشيء ان يكون كمثلها .. بجمالها
الا هذا البحر .. وتلك الزهور .......
هذه التي سأظل أهديها إياها كل يوم, لتؤنس وحدة قلبي قرب بروازها المهجور.

انتهى ...

سليم مكي سليم

فكرة الكتابة بين أدب الفضيلة وثرثرة الإغراء

تختلف الغاية في الكتابة باختلاف المشرب الروحي والوجداني لمن يسمي نفسه كاتبا. الروح السوية روح مؤكدة, والروح المنحرفة روح مؤكدة أيضا, غير أن احداهما تحلق في السماء والأخرى تغرق في أوحال الأرض.. أما أنا فلا يمكنني أن أتخيل كاتبا أو أديبا يكتب بحبر ملوث وبقلم موحل.. فالأدب مهنة الشرفاء دوما.. وفي ثقافتنا وهويتنا كعرب أو مسلمين ارتبط الأدب بروح هذه الكلمة النقية "الأدب", أدب الروح وأدب اللسان وأدب السلوك وأدب الوجدان أيضا...

ليس أديبا بنظري من ينحر الكتابة على أوراقه بتصوير المظاهر الفاضحة أو المشاهد الخليعة أو باستعارة الكلمات السوقية والنابية بدعوى أنها الجرأة والشجاعة في الكتابة أو بدعوى أنها من صميم المجتمع ومن مستلزمات نقل الوقائع والواقع ... إن الكاتب الذي يدافع عن هكذا ثقافة "مغتربة" محضة, يجب أن يُحرَم مثله مثل أي منبر إعلامي ينشر الرذيلة ولو بشكل مقنع.. إن هذا الكاتب يرسخ الانحدار بالمجتمعات التي تتطلع دوما إلى الفضيلة, وحكم الفضيلة عليه حكم المجاهر بالفحشاء... لا يجب أن يتسامح معه أحد. لأنه يلوث عقولا ويهيج نفوسا متعبة تحتاج إلى مهدئات بدلا من المنبهات.

عادة ما لا ينجح أمثال هؤلاء بين طبقات المجتمع النظيف والراقي ولا في أوساط المجتمع المحافظ والبسيط, إنما يستوردون نجاحهم أو شهرتهم المبنية أساسا على دمار القيم المهجورة لدى ثقافة العري مما يروج له فيما وراء البحار, متبجحين بلمعان التفتح ومحفزات التنصل من المرجعيات الأخلاقية والاجتماعية التي ظل أجدادنا لمئات القرون يحافظون عليها... بالمقابل طبعا, ستوصم إن حافظت على نظافة قلمك الشرقي جدا وشرف رسالتك الأدبية جدا و الرامية لنشر المزيد من الحب الرصين والفضيلة الأصيلة... بأنك رجعي حينا أو أصولي حينا آخر, أو بأنك سجين التراث وأسير التخلف وحبيس المخطوطات المنسية.. يجب –كي تنجح- أن تلبس كتاباتك أثواب الموضة فتقبل بالفساتين العارية وتدافع عن بائعات الهوى وتنصر الشواذ وتقدم إعلانا مجانيا للخمر والمراقص وبيوت العار وتتفنن في وصف لذات الغزل, عليك أيضا أن تذكر بجرأة في بعض صفحاتك شرحا مسهبا لشكل الخيانة الزوجية وليس لأسبابها, وتلميعا لتفاصيل الزواج العرفي بمقدماته وليس بخواتمه, وأن تبرع في استخلاص دوافع العزوف عن التمسك بالإسلام الشامل طالما يوجد من المسلمين من يميل إلى التشدد و الغلو أو التطرف... حينها فقط ستفتح لك قنوات التلفزيون ويستقبلونك في المطار بباقات الورود ويهنئك الرئيس في كل عيد ويلصق اسمك على حائط النجوم وتقام لك الندوات وتنشر لك الفعاليات على ركح المسارح وأعمدة الجرائد والمجلات ثم تتحصل في الختام على جائزة نوبل للآداب...

قد تشمون رائحة القسوة بين حروفي, مؤكد ذلك... لأنني يجب أن أكون كذلك... لا بد أن أكون قاسيا, لأنها الغيرة على الأدب صدقوني.. هي الحسرة على ضياع الفضيلة ... لست بحاقد على احد ولا اعني أحدا من الكتاب, أنا لا أقصد شخصا ما وإنما أعني الشنيع من المواقف والكلمات.. ربما لا علاقة لي بالكتابة فأنا لا اعتبر نفسي كاتبا وإن قيل عني أني كذلك. وان أحببت أن أكون كذلك واستطعت, فإنني لا أود إلا أن أحترف مهنة الأدب وليس غواية الكتابة.. إن كل ما في الأمر أنني امتلكت هبة من الله تجعل أصابعي تحيك بطلاقة هذه الحروف التي تنبع من وجداني الخفي.. لقد خلقني الله ومنحني كل هذه النعم بما فيها عيونكم التي تقرأ بعضا من همومي وهواجسي.. فكيف أفصل ذاتي ووجداني عن بارئه وهو الذي يحبني أن أكون الإنسان الذي يهزم الشيطان لا الإنسان الذي يحالفه...

قد يجد الكثيرون حججا لتبرير حروف الإغراء والمتعة والإثارة.. قد يقولون كل ما يحفظ ماء وجوههم أمام الناقدين القساة أو المحللين الرجعيين على حد قول البعض.. لكنهم لن يستطيعوا البتة إقناع القاريء الشريف والنبيل أن ما يكتبونه على صفائحهم بوح وجدانيُُ متأصل ينشر الفضيلة ويدعو إلى السلام والإسلام "دين الكون" ويوثق الأواصر بين الأرض والسماء, وبين الروح والجسد, بين البشر وبين الله... ألم يخلقنا الله لنكون له ونؤول إليه..

كم نحن إلى روح الأدب... ذاك هو الأدب, وذلك هو الرافعي والمعري والعقاد, وذاك هو جبران وابن المقفع وسيد قطب.. هم أولئك الأدباء, من يجعلونك ترتبط حقا بوجدانك الصفي وتعود إلى روحانيتك وجذورك السماوية.. لأنك حتما من السماء نزلت وما فارقت الجنة إلا لتكتشف عبقها وأنت مسلسل بتراب الأرض, فتتوق إليها وإلى اعتناق حضنها بما تكابده من صبر على أهواء نفسك ومن كفاح لأجل صون الفضيلة في ضميرك والأدب والأخلاق.. مترفعا عن دنايا الخطيئة على لذتها وعن بشاعة المتعة وعن أثرها المريع... فهي بحق –أي الخطيئة- منبوذة فطريا وأسريا واجتماعيا.. فكيف تستعطيها بعض الأقلام التي تدعي الأدب وتتلذذ بها عيون تدعي أنها تجيد القراءة وتحظى بغوغاء الشهرة والنقد وهي التي إن حضت بجودة الصياغة والتركيب , تعرت من قيمة الأدب وسلطان الفضيلة..

يجب أن يكون النقد أدبيا محضا, أدبيا بمعنى الفضيلة, لا كتابيا بمعنى الصورة أو الرسم وحسب.. وما تلوث بعضه سكنته الشبهات وطلقته المصداقية الواجبة لمن يفترض به أن يكون مربيا ومصلحا ومنتجا ومرشدا وطبيبا روحيا لكل قراءه ومحبيه.. إنه الأديب.. هكذا كان, وهكذا يجب أن يكون ولا ريب...

سأختم كلماتي هذه باعتراف جميل لأجمل أديب سحرت بخياله منذ الطفولة, إنه "جبران خليل جبران" ومن منكم من لم يقرأ لجبران.. جبران الذي قال "أنا رب نفسي" فأنكر الديانات كلها, جبران الذي لا فرق عنده بين الخير والشر كما لا يفرق بين الكفر والإيمان, جبران الذي أنكر كل الشرائع والنواميس, جبران الذي اتبع دين الأهواء ومذهب التقمص يستيقظ قبل أن يقتنصه داء السل فيفتك به ليقول بحرقة الأديب المتأصل الجميل: " لقد نحرتَ حبك على مذبح شهوتك يا جبران... أنت مصاب بداء الكلام يا جبران. ولأنك تخجل من كل ما فيك من ضعف بشري تعكف عليه فتستره بحلة من الكلام الجميل والألوان البهجة. والكلام الجميل لا يرفع الشناعة إلى مستوى الجمال. والألوان البهجة لا تصبغ الضعف قوة. وقولك أن الحب هو الله لا يجعل الشهوة الجسدية إلها ولا اللذة الحيوانية ناموس الحياة".

لقد استيقظ جبران متأخرا, وجسد فيه عمق الحكمة التي تقول: نحن نكبر لنتعلم وحين نشعر أننا تعلمنا نجد أنه لم يبق في العمر بقية.. هل يحتاج كتابنا الصغار كل الوقت الذي استغرقه جبران الكبير ليصبحوا مثله "أدباء" كبار؟؟؟

-----
بقلم سليم مكي سليم - الجزائر - 01/07/2008