مبحر على عتبات الحرف

دمعة من جفن آيـة

وككل سنة.. نهجر القرآن كثيرا طوال سنة
ونشعر بالذنب حين يقبل رمضان.. فنعقد العزم على اتمام ختمة كاملة .. واحدة على الأقل هذه السنة
فقد لا يدركنا العام المقبل لنستدرك ما لا يمكن استدراكه بعد المماة

فتحت المصحف الشريف في اول يوم لأبدأ القراءة.. مجرد قراءة.. فقد ابتعد قلبك الصغير عن عظمة ذلك الحب الرباني الكثيف بين عبق آيات تقطر حبا وشجنا ودفئا وحكمة...

في اليوم الموالي... لاقيت صديقي بعد انقضاء صلاة العصر في المسجد.. كنت قد صممت على الاسراع لختم الجزء الثاني لهذا اليوم...
أتى وبعد أن حياني وسألني عن أحوالي مع رمضان... ابتسمت وقلت له وقد كنت متفائلا جدا... الحمد لله الذي وفقني لأتم ما تيسر من الجزء الثاني... أعتقد أنني سبقتك.. إلى أين وصلتْ؟

قال أنا؟
قلت نعم .. أنت
قال أنا لا أسابق أحدا, إنني أحاول ترتيل القرآن, لا قراءته
قلت له لم افهم.. وكأننا لا نرتله مثلك
قال هات أسمعني, أنت سبقتني في الصفحات وانا سبقتك في التلاوة... واثق من ذلك

فتحت الكتاب, وبدأت أتلو عليه إلى حيث وصلت... لكن صديقي ما انفك يوقفني بين كل آية وآية ويصحح لي نطق بعض الحروف وتبيان بين علامات الوقف ورموز الأحكام وقواعد التلاوة
لم أشعر بالملل فقد كنت مؤمنا أن للقرآن حقه واننا مقصرون جدا في دراسة أحكامه وحفظها...
قال لي بعد أن تعبت من الاستمرار في متابعة قواعده الكثيرة
أرأيت ما كنت لتتعب وتنسى لو أعطيت لهذا الكتاب العظيم حقه.. ومن حقه أن يتلى كما انزله الله على لسان جبريل... فقد حفظ الله للقرآن على مر الزمن شكله ونطقه وكتابته دون تغيير ولا حذف
قلت له لكن قواعد كهذه يلتزم بها من يدرسونه كعلم.. أنا لست من المجودين
قال: ومن قال لك أن التجويد علم... التجويد من الإجادة, وهي الاجتهاد في نطق القرآن صحيحا بلغته الأولى على رواية القراء المعروفين, مع اعطاءه مسحة رقيقة بجماليات الصوت وعذوبة التغني واللحن... انت لم تقرأ القرآن فأعد قراءته

قلت له كلامك صعب على غيري ألا تعتقد أنك ستنفر كثرين ممن لا يعرفون حتى بوجود شيء يسمى أحكام التلاوة ويصعب عليهم فهم الادغام والغنة والتفخيم والإمالة وغيرها
قال لا يعذر الجاهل بجهله, على العاقل أن يسعى لطلب العلم المتاح الحصول عليه وخصوصا في عصرنا هذا فالعلم في متناول يديك.. على قنوات مختصة ومواقع أكثر تخصصا

قلت له أرجوك دعني أتمم ما نويت عليه, ليس بوسعي مراجعة كل هذا الآن.. أتمنى ان أوفق لمعرفته لأنني أعرف أنه واجب... إنه القرآن.. وأملي ألا تقول لغيري ممن لا تعرفهم "اقرا القرآن.. هذه ليست بقراءة"... وشعرت حينها بأن صديقي انزعج فرد علي
لقد ذكرتني بأحدهم قلت له نفس الكلام فقال لي: ليتك لم تخبرني بشيء فقط ثبطت عزيمتي

قلت له أراه كذلك صدق, فحكمك قاس عليه وشديد.. يسروا ولا تعسروا وبشروا ولا تبشروا.. لم لم تأته بالحسنى
قال أتذكر أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال للأعرابي "صل فأنت لم تصلي"... قلت له أجل ولكنه لم يقل له " صل فهذه ليست بصلاة".. قال وما الفرق.. قلت فرق كبير... في روح النصيحة اولا وفي رقة الجملة ثانيا... كثيرون ممن يحملون المصاحف الان لا يفقهون شيئا من الأحكام لكنهم يجتهدون على الأقل لحمل المصحف وقراءة ما فيه

قال لي لم تتساهلون في الدين إلى هذا الحد أسمعت الذي يقرأ القرآن بسرعة بسرعة بسرعة دون أن يتدبره, قبل قليل قرأت أنت الآية والله رؤوف حليم, وكانت رؤوف رحيم.. فقط لأنك أسرعت ولم تركز ... وقرأ مرة أحدهم الآية "فسقى (آ) لهما عيسى.." كما يلي "فسق لهما عيسى..." فتسمع بدلا عنن السقاية كلامة من الفسق لكونه بلع الحروف بلعا حين أسرع ولم يتدبر حتى معانيها... تهاون أهل الكتاب في حفظ التوراة والانجيل فعلموه لأبناءهم ميسرا منقوصا فوصلهم منقوصا ب20 بالمئة من روحه ومعانيه.. ثم نقله أحفادهم باستسهال فوصل الذين بعدهم منقوصا مشبوها ب30 بالمائة.. إلى أن جاء جيل منهم لم يعجبهم ما فيه فحرفوه... هل رأيت لماذا لا يجب أن نتساهل مع هذا الكتاب الذي وعد الله بحفظه كما أنزل أول مرة.... لا يجب أن نهين تشدد العلماء المقرئين والحافظسن للقرآن والحريصين على ألا يمسه لغط...

والله أفهمك ..لكن هكذا تعلمناه منذ الصغر ولم ينبهنا أحد لما تتحدث به الآن.. أسأل الله أن ينعم علي بحفظ أحكامه... صدقي أحب ذلك

قال تحبه لكنك لا تسعى إليه وإلا لكنت الآن ممن يعلمون ذلك.. لا ممن يتعلمونه

ضحكت ونهرته.. انصرف.. دعني أكمل ختمتي بخير... صح بعد فطورك

........
......
...
بعد فجر الغد.. حملت المصحف مجددا لأقرأ الجزء الثالث.. تذكرت نظرة صديقي.. فقرأته لأول مرة منذ زمن.. على مهل.. بروية.. بتمعن.. بدفء.. وشعرت بسكينة لم تقربني من قبل.. كانت سورة آل عمران رائعة الاسترسال بين أحبال صوتي.. ورنين آياتها يهز أخيلتي فأحيا الصورة بين آل عمران.. في بيت سيدنا زكريا ويحي .. في محراب مريم ... في تجادل اليهود والنصارى مع النبي حول أنباء الأنبياء الأولين.. حول حنفية ابراهيم الخليل .. حول حواريي المسيح عليه السلام.. وحول أشياء كثيرة لم أكن أراها من قبل في ذات السورة والتي قراتها مذ خلقت عشرات وعشرات المرات...

ما أحلى القرآن لمن يفتح له قلبه بدفء.. هي نعمة من الله نحمده عليها أن نتبين معانيه ونشعر بحلاوته.. لكن بسعي منا..بحب له.. وارتعدت دونما شعور مني حين قرأت دعاء الايات الاخيرة من السورة ... " ... ربنــا إننا سمعنا مناديا ينادي للايمان أن آمنوا بربكم, فآمنا, ربنا فاغفر لنا ذنوبنا وكفر عنا سيئاتنا وتوفنا مع الأبرار, ربنا وآتنا ما وعدتنا على رسلك ولا تخزنا يوم القيامة, إنك لا تخلف الميعاد"
وشعرت بقشعريرة تطوف علي... "فاستجاب لهم ربهم أني لا أضيع عمل عامل منكم من ذكر أو أنثى".... ولم استطع أن أكمل
فقد طرفت عيني لتدمع.. دمعة من جفت آية... شعرت بحنان الله علي.. أوشكت على البكاء وشعرت بالحب الرباني الكبير لبشر لا يتوقفون لحظة عن معصية الله والتفريط في حقه وهو عنهم غني.. لكنه بهم رحيم.. رحيم ..رحيم.. ولا يضيع أجر محسن منهم ويمحي بحسناتهم القليلة الكثير من السيئات...

ما أرحم الله... " فاستجاب لهم ربهم أني لا أضيع عمل عامل منكم من ذكر أو أنثى بعضكم من بعض, فالذين هاجروا وأخرجوا من ديارهم وأوذوا في سبيلي وقاتلوا وقتلوا لأكفرن عنهم سيئاتهم ولأدخلنهم جنات تجري من تحتها الانهار ثوابا من عند الله, والله عنده حسن الثواب"... وانحبست دمعتي قبل أن تتسلل بين رموشها... وشعرت انني لا أملك العمق الكافي لأبكي فعلا... حبا لله .. وخشية منه.. وعلمي الكبير أن رحمة الله سبقت كل شيء.. فإذا بكينا فلنبك لعظيم عطفه بنا وحنوه علينا وحمايته لأنفاسنا ونبضنا وأبصارنا وصحتنا وأسماعنا وأصواتنا ووووو

لا تعد النعم
فاشكروا الله .. وسارعوا لأن تتلمسوا حبه لكم في جفن آية...

رمضانكم كريم
فاحيوه بحب...
وتعمقوا في استشعار روح الآية
إن الله يحب إذا عمل أحدكم عملا ان يتقنه.. فاحسنوا التلاوة.. وابتعدوا عن قراءة القراءة..
أحبوا الله في كلماته.. بكلماته
وتدبروا معاني الآية فهي والله آية ..
آية في التشويق .. في الجمال..
في جاذبية الأدب.. في تفوق البلاغة..
في تبيان الحكمة
وفي استبيان الحب
كل الحب

صحة بعد الفطور

3 comments:

  1. Anonymous3/9/08 01:02

    هل أخبروك قبلي أن كلماتك طيبة؟

    لكم رغبت في أن اقولها لك
    واليوم أمام هذا النص اكثر من أي نص مضى

    هل أخبروك قبلي أن كلماتك طيبة؟

    ربما تغنى الكثرين غيري بجمال ماتكتب
    اما أنا فأول ماأستشعره كلما قرأت لك هي طيبة من يكتب

    ahleme_toujours@hotmail.com
    le 9/3/2008

    ReplyDelete
  2. ولأجل شعوركم الأجمل بهذه الطيبة والتي يرفعني اعترافكم بها عاليا عاليا قرب السماء لتصبح ابتسامة روحي الطائرة قادرة على معانقة عنان أعماقكم الشجية
    سوف أظل أكتب ..ههنا .. وسامنح هذا المكان الذي أحببته فعلا أشياء جميلة جديدة ودافئة أيضا
    اعدكم بذلك

    ولي .. ههنا.. لأحلام الأم.. أم الرواية.. لأحلام الكبيرة والتي لم أكتشفها كلها بعد .. قبضة ملئى بعطر الحب سوف أنثرها على هذه الصفحات
    في الوقت المناسب.. للظرف المناسب

    شكرا ليس أنني أصبحت بينكم..
    بل لأنكم كنتم وستبقون دوما هنا
    لي ولكل الذين أحببتم

    أحبكم .. والله يشهد
    دمتم بخير
    ودام الأدب الجميل بكم .. بألف خير

    تحايا رمضانية

    ReplyDelete
  3. Anonymous8/9/08 00:07

    سليم....شكرا جزيلا لك
    سلمت يداك
    خالد

    ReplyDelete