طال انتظاري عند موقف الحافلات... الحر يشتد والصبر فاض والريح تلتهب.. تمنيت وصول الباص في لمح البصر, لكن أمنيتي تحدتني فضاعفت مرات ومرات لحظات الانتظار حتى سئمت.. وحين سئمت, قررت المشي راجلا, لتعاود أمنيتي سخريتها مني مرة أخرى حين توقف الباص خلفي ثوان بعد أن تحركت... جريت صوبه ثم تنفست عميقا ذاك الهواء .. كم أغاظني الزفير الساخن الذي يزمهر غليانا بين أنفاس الركاب...
أمسكت مقبضا خلف مقعد السائق وأمنيتي الجديدة أن اجد مكانا أجلس فيه.. وقفت للحظات أنتهز فرصة قيام احد الراكبين أنقض على كرسيه فأملأه .. كنت مرهقا جدا, وكم كنت متعبا اليوم في الموقف الممل قبل وبعد ذاك الإنتظار .. لم أكن أفكر بشيء ولكن الأشياء التي تطارد مخيلتي كثيرة كثيرة .. بعضها يغيظني .. بعضها يريحني .. بعضها يشتتني .. أريد أن أجلس .. هكذا همس قلبي في باطني .. وإذ ذاك لمحت شيخا يهم بالوقوف, تحركت من تلقاء نفسي نحو مكانه, لقد نزل .. وأخيرا سوف أرتاح للحظات .. سوف أرتاح.
جلستُ وحين جلست, اضطرمت في أعيني معارك منتفضة من الريبة حيا وحينا آخر منالإرتباك, ترنحت وترنحت لكي أستقر في مكاني لكنني لم أهنأ بعد بجلستي المترددة... كانت عيونا ثائرة , منتصبة مهيبة , تمتص إحساسي وتنهش وجداني بكل قسوة.. لا يكاد ناظري يستقر على شيء .. أين جلست؟ .. ماذا هناك برب السماء ماذا هنا؟.. أمامي مباشرة كانت تجلس تلك الفتاة .. السكينة حولها ناعمة, مستغرقة في التفكير, تمسك بأصابعها طرفا من خمارها الأبيض الجميل, ذلك المنسدل فوق صدرها صامدا بكل وقار.. كانت كلها تحفة من السكون يخيَل إليك بسكينتها أنها تمثال آية ببياضه المشع في الصفاء, آية في الحشمة, .. أعجوبة في الهدوء... أبحث في عينيها عن صورتي .. لم تنظر إلي .. لم أنظر إليها .. أتلصص على صمتها الذي يرقد بسلام على الزجاج .. كانت تحدث كائنا ما .. لم أكن أنا مؤكد .. لا تلتفت إلي .. ولم تتنهد مطلقا .. وظلت بطول الطريق تحملق -عبر زجاج النافذة المسافر- في الأفق البحري بشغف وعمق ونهم, أحداقها صامتة, لا تتحرك أبدا, لم يرتد طرفها إليَّ قدر أنملة وكأنما لم تشعر بوجودي قط.. هدأت أنا أيضا وسكنت هناك .. أرقب الموج الهائج عبر طريق يغامر بحدود البحر الذي أرقبه اليوم تائها على غير العادة بلا اهتمام .. لست أنا هذا اليوم .. , أسترق النظر إلى مقلتيها.. لم أفعل مثلها قبل اليوم .. أعود بين ثانية وثانية .. أحن إلها .. أختلس منهما صورة لأحللها بين زرقة السماء واخضرار البحر.. كنت أغرق بنظري الذي صار أحولا من كثرة اجتذابها لعيوني الحائرة, لكن عيونها الغرقى في لجج الأفق كانت أكثر حيرة من عيوني.. معلقة جفونها لا تهتز ولو قليلا, وكان البؤبؤ في قلب عينيها شاسعا جدا, تشدني شاعريته إلى اعماقها شدا عنيفا, كشد الثقوب الغامضة السوداء لشهب الكون... لم تـُشح ببصرها مذ جلستُ مقابلها, وكأنها تقول لي بكل ثقة: اسرح مثلما شئت في جمالي, فإنني يا سيدي لا ولن أبالي ...
هجرتُ الموج, وتركت البحر, ورحت أسبح في عالم محظور, عالم كله زرقة تعانق الإخضرار , وعشق حياتي كلها, حديقة خضراء تعانق كل يوم موجا أزرق.. أحداقها لم تكن مسيجة بشباك, كانت جنة فسيحة خضراء تتسرب بين ثناياها حياض البحر, نظراتها العميقة جدا جدا, تعطيك انطباع المغامر في سراديب الكهوف العجيبة.. تنهدتُ عميقا دون أن أصدر زفرة واحدة, علها تسمعني فتغمض عينيها فأصير بدونهما ضريرا, لا أبصر.. نسيت كل من حولي وفقدت كل أبعاد الزمان والمكان, لم أشعر قط بشخير المحرك في الحافلة.. خفت ان أزعجها بجنون انظاري الخفية, فرحت أترنح من جديد بعد دهر من الجمود علها تحس بي فتستجيب, لكن ...
ما أغرب هدوءها رغم الصخب, أما صمت عيونها فشيء أفظع من عجيب...
سألت نفسي ملايين الأسئلة, مالها تتجاهلني؟ هل صوت أعماقي شحيح صداه إلى هذه الدرجة؟
كم كان سحر تلك العيون المخضرة الزرقاء ثقيلا ضربُه فوق أوتاري..
كم كانت تلك الزرقة الهادئة فوق أحداقها الجامحة تسلبني كل دمي , وتسرق كل أنفاسي, فأشعر بالفراغ وأنتفض له من الوجد والحنين.. صرت أحلم وأنا الغريق بأن امتطي السحاب فنطير معا.. نبحر معا.. حيث لا يوجد غير الحب..والصفاء .. والأمان .. وهذا البحر , وهي وأنا ..
صاح القابض موقظا فرحتي في سفرتي ناقرا الجرس على حديدة صغيرة .. " المحطة الأخيرة .. المحطة الأخيرة " ..
تحرك الطفل قربي, ومد يده إلى الفتاة قائلا: " خالتي .. هيا لقد وصلنا.."
مدت الأميرة الساحرة يدها إلى الحقيبة في حجرها وسحبت بلطف نظارتها السوداء.. وتنهدت.. ارتدتها ثم قامت تتحسس بيدها الرقيقة حافة المقعد ثم الباب, بينما يدها الأخرى ممدودة على كتف الصغير الذي كان يقودها خلفه بكل بحذر..
تسمرتُ مكاني, واستحالت كل تلك الزرقة إلى سواد, وانقلب الاخضرار في قلبي إلى عمى..
تقرب القابض مني, وهزني من كتفي ثم قال : سيدي ..لقد وصلنا.
وقفت فزعا شاحبا, باهتا مشذوها .. مشيت ولم أنظر إليه لأنني لم أسمع منه شيئا إلا عيونه التي كانت تقول: " عفوا سيدي .. حـبـيـبـتـك تلك .. كانت عمياء" .. عمياء..عمياء
-----------------------
سليم مكي سليم / يوليو 2004